ليست الحالة السلفية حديثة النشأة في لبنان ، وإن كانت شهدت في العقدين الأخيرين نمواً ملحوظاً وامتداداً من بعض المراكز المدينية والمسجدية إلى حواضر وتجمعات شعبية وريفية ، فضلاً عن تطور أساليب عملها من جهود فردية يقوم بها دعاة بمفردهم إلى جهود جمعياتية ومؤسساتية تشرف عليها وتشترك في إدارتها طاقات شابة متنامية في الحقل التربوي والصحي والإعلامي ، فضلاً عن المشايخ والدعاة المؤسسين لهذه الجمعيات ، هذا بالإضافة إلى بدايات تبلور خطاب سياسي كانت تفتقد إليه فيما سبق .
النشأة والبدايات
لا شك أن تأثير الشيخ محمد رشيد رضا يرخي بظلاله على تلك البدايات ، فهو منذ أن كتب عن الدعوة الوهابية في ثلاثينات القرن الماضي ورغم زياراته القليلة إلى طرابلس – العاصمة الثانية للبنان ، ذات الغالبية السنية المحافظة – ترك أثراً هاماً في وعي أبناء وعلماء المدينة ، فقد كانت سلفيته عقلانية ومرنة مطعمة بتأثير أستاذه محمد عبده .
لم يكن انتشار السلفية الوهابية سهلاً في الحواضر المدينية اللبنانية ، ففيها ترسخت وعلى مدار قرون الأشعرية كعقيدة لأهل السنة والجماعة والمذهب الحنفي كفقه معتمد لغالبيتهم ، ونسج علمائها مع الأزهر الشريف العلاقات الوطيدة حيث من علمائه الكبار كانوا ينهلون المعرفة والعقائد والفقه ما جعله مرجعيتهم الشرعية والتربوية ، لذلك انتشر بين مساجد طرابلس وبيروت وصيدا وغيرها من المدن والحواضر السنية في الريف اللبناني علماء الأزهر يعلمون ويدرسّون ويعظون .
لم يكن هذا يعني أنه لا مكان للدعوة السلفية في هذه البيئة الفكرية ، بقدر ما يعني أن الدعوة لها لم تكن أمراً سهلاً ، فقد كان أبرز علماء طرابلس وغالبية مشايخها من خريجي الأزهر المتأثرين بالتيارات الفكرية السائدة في أروقته حينها ، ولم يكن رائجاً التوجه إلى المعاهد والكليات الشرعية في السعودية لتلقي العلم الشرعي إلا فيما ندر قبل أن يصبح هذا الأمر منذ الستينات والسبعينات أمراً مألوفاً وينطلق مع الثمانينات ، وليكون من نتائجه المباشرة دوراً متناهياً داخل المؤسسة الدينية السنية لهؤلاء الخريجين الذين حملوا معهم مؤثرات الدعوة السلفية الوهابية ، بل أن هذا الدور لم يقف عند حدود المؤسسة الدينية والدور الوعظي والدعوي داخل المساجد ، وإنما بدأ يفعل فعله على تخومها وفي بيئتها من خلال الأنشطة الدعوية ذات الطابع الجمعياتي والوقفي النشط .
من أبرز الدعاة المؤسسين للدعوة في لبنان الشيخ سالم الشهال () ، الذي بدأ مسيرته بالدعوة السلفية في طرابلس منذ أواسط أربعينات القرن الماضي الذي اطلع خلال رحلاته إلى المدينة المنورة في السعودية على الدعوة السلفية واجتمع بعدد من علمائها وتأثر بهم ، وحينها بدأ تركيزه على محاربة البدع وكل ما يسيء إلى صفاء العقيدة ثم ما لبث أعلن تأسيس ” الجماعة مسلمون ” عام 1947 يوم لم تكن هناك أية جماعة إسلامية في لبنان ، وقد ذاع صيت هذه الجماعة حينها واستطاعت أن تستقطب بعض الوجوه والعلماء الذين بايعوا الشيخ سالم أميراً ، وكان بينهم حينها الشيخ سعيد شعبان وفتحي يكن .
مع انفجار الحرب اللبنانية عام 1975 لم يسجل للسلفيين في لبنان أي دور بارز ، عدا المحاولة المتواضعة مع بداية الحرب لتشكيل فصيل عسكري رعاه الشيخ الأمير سالم الشهال تحت اسم ” نواة الجيش الإسلامي ” ، والذي انحصر وجوده في أحد مناطق وأحياء طرابلس بين 1975-1976 ، ولم يلبث أن تم حلّه كما غيره من المجموعات المسلحة مع دخول قوات الردع العربية عام 1977 إلى طرابلس وباقي المناطق اللبنانية ، جرت محاولة لإحيائه من جديد أواسط الثمانينات في فترة توسع انتشار حركة التوحيد الإسلامية في طرابلس ، إلا أنها لم تكن ناجحة .
خلال الحرب اللبنانية بدأت الأمور بالتغير على الرغم من تركيز الشيخ على شؤون الدعوة والتربية ، فقد أرسل خلالها الشيخ سالم أبناءه الثلاثة – داعي الإسلام ، وراضي، وأبو بكر – لتلقي العلم الشرعي في المدينة المنورة وفق المنهج السلفي ، فكانوا من أوائل الدفعات التي بدأ بعدها الطلبة ممن تلقوا أصول الدعوة السلفية العلمية بالتوافد على المدينة ، وبدأ معها الجيل الجديد إدخال البعد الحركي والمؤسساتي إلى جانب الدعوي والتربوي ، ومع تقدم الشيخ سالم بالعمر وانصرافه الكامل للعمل الدعوي بدأ جيل جديد -من بينهم أبناءه – يعملون لتأسيس مشهد سلفي جديد يتخطى حدود طرابلس .
في الثمانينات انتعش التيار السلفي في إطار رواج هذا التيار ومقولاته في العالم العربي وبروز بعض رموزه التي بدأت تجدد في خطابها السلفي ، كالشيخ ناصر الدين الألباني – صاحب منهج ” التصفية والتربية ” وتركيزه على ” التوحيد والأتباع والتزكية ” – ، ثم بدأ يتسرب شيء من مما يعرف بالسلفية الحركية وأفكار الصحوة أو ما يعرف بالتيار ” السلفي السروري “، لتأتي بعدها الحالة الأفغانية لتطلق موجة السلفية الجهادية التي وصلت رياحها إلى طرابلس .
بقيت دعوة سالم الشهال محصنة أمام كل هذه المتغيرات، توفي الشيخ عام 2008، وبقي وفياً لسلفيته الدعوية الوهابية العلمية، أو كما كان يسميها دعوة أهل السلف الصالح، ولم يتزحزح عنها، إلا أن كثيراً من طلابه ومريديه انفضوا عنه وشكلوا جمعيات وأطر خاصة بهم بعيدا عن مرجعيته، في حين انصرف أولاده وعلى الأخص ابنه الشيخ داعي الإسلام لترسيخ وتطوير مدرسة والده السلفية عبر تأسيس المدارس الدينية والعمل الخيري وبناء المساجد من خلال جمعية “الهداية والإحسان” التي شكلت الإطار الرسمي للحركة السلفية عام 1988، والتي دخلت مبكراً في حرب فكرية وفقهية مع ” الأحباش ” – جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية .
في هذه الأثناء حدثت تطورات في الساحة اللبنانية تركت تأثيرات بالغة الأهمية في مسارات العمل الإسلامي عموماً والسلفي خصوصاً ، ذلك أن الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982 كان محطة مفصلية بالنسبة لهم ، فعلى وقع هذا الاجتياح الصهيوني الذي دخل إلى العاصمة بيروت : انتعشت حركات الإسلام السياسي ، بدءاً بتأسيس حزب الله ، إلى حركة التوحيد الإسلامي التي قادها سعيد شعبان والذي جمعته بالشيخ سالم علاقات وميول سلفية قديمة ، إلا أن حدثين ساهما في بلورة منعطف جديد للإسلاميين والسلفيين في لبنان :
- الأول تمثل بانفجار الصراع السوري الفلسطيني ، والذي كان من نتائجه معركتي البارد والبداوي وحصار طرابلس الأول الذي انتهى بخروج عرفات منها في 20 ديسمبر 1983 على ظهر سفينة وبحماية بوارج فرنسية ، لتستمر بعدها المعركة مع حركة التوحيد الإسلامية (1983-1985) بشكل متقطع ، إلى أن انتهت بالحصار الثاني لطرابلس والقضاء عسكرياً على حركة التوحيد الإسلامية ودخول القوات السورية إلى طرابلس ، لتبدأ بعدها عملية اضطهاد واسعة لكل الإسلاميين ، ولتبدأ من جهة ثانية مرحلة تمثلت بحرب المخيمات الفلسطينية (1985-1988) في بيروت والجنوب ، والتي شنتها قوات حركة أمل المتحالفة مع النظام السوري ، نتج عن ذلك هذا الأمر تشتت الإسلاميين والسلفيين الذين لجأ بعضهم إليها ، وتعرضهم لحملات الملاحقة والاعتقال ، دون تمييز بين المقاتلين والدعويين .
- الثاني : تمثل باغتيال الشيخ نزار الحلبي رئيس جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية ” الأحباش ” في بيروت بتاريخ (31-8-1995) ، وقد شكلت هذه الجمعية رأس الحربة في مواجهة السلفيين من داخل منظومتهم العقائدية ، هذه الجمعية وطدت نفوذها في الشارع السني مستفيدة من تحالف وطيد مع النظام السوري ، سرعان ما تكشف أبعاد الجريمة ، وتبين أن ” عصبة الأنصار ” – وهي إحدى التنظيمات السلفية السرية الفلسطينية التي يقودها أحمد عبد الكريم السعدي والملقب بـ ” أبو محجن ” – هي التي تقف وراء الاغتيال ، واعتقل المنفذون بعد أن اعترفوا متفاخرين بما فعلوه () ، وجرت محاكمة سريعة وتم إعدامهم في 24 مارس 1997 ، الإعدام السريع أثار غضبة واسعة في الأوساط الإسلامية والسلفية () .
ولدت هذه التطورات المتسارعة مناخاً صدامياً بين السلفيين اللبنانيين وسلطة الوصاية السورية حينها ممثلة بأجهزتها الأمنية وبأجهزة الشرعية اللبنانية التي كانت تعمل بالتنسيق الكامل معها .
في ظل الوجود السوري المباشر في لبنان بعد الطائف ، ازدادت صعوبة العمل أمام السلفيين اللبنانيين ، مع ذلك بدأت تتأسس مجموعات مدرسية سلفية متنوعة ، مدشنة ميدان خاص بها ، واستراتيجية عمل اعتمدت على طريقة إنشاء المدارس والمعاهد والأوقاف ، وخصوصاً بعدما بدأت ملاحقة بعض رموز هذا التيار عام 2000 ومنهم نجل الشيخ سالم الشيخ داعي الإسلام ، وحلّ جمعية الهداية وإغلاق مدارسه بسبب ما كان يدرسه المعهد التابع له من فكر اعتبر بنظر الحكومة حينها تكفيرياً ويحض على الفتنة لعدد من الفرق والمذاهب الإسلامية .
واجهت الحركة السلفية أكثر من انتكاسة بعد الطائف منذ اغتيال رئيس جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية ” الأحباش ” الشيخ نزار الحلبي عام 1995 إلى الصدام الدموي بين الجيش اللبناني ومجموعة جهادية سلفية ، عرفت باسم ” جماعة الضنية ” أواخر عام 1999، جرى بعد كل منها موجة اعتقالات طالت العشرات ، تم بعدها ضبط الأنشطة السلفية على نحو محكم ، واجهت الحركة السلفية بعدها انتكاسة أخرى لأسباب تتعلق بالسياق الدولي الناتج عن هجمات 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة وما تبعها من تفجيرات الرياض عام 2003 () ، الأمر الذي أدى إلى خفض المنح والمساعدات الخارجية أو إخضاعها لشروط معقدة ، ومع تراجع الدعم السعودي تنامت السلفية المدعومة كويتياً ، في المقابل أدى إغلاق جمعية الهداية والإحسان السلفية الجمعية الأبرز في لبنان إلى المزيد من إضعافهم وتشتتهم .
لعب الشيخ زهير الشاويش () دوراً هاماً في نشر الفكر السلفي في لبنان من خلال تأسيسه للمكتب الإسلامي والمطبوعات الغزيرة التي كان يصدرها في بيروت لتوزع في العالم العربي ، كذلك بدأ الطلبة من خريجي الكليات الشرعية السعودية – وخاصة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة يلعبون أدواراً ناشطة في المساجد – وهذا ما حدث في البقاع اللبناني حيث ركز الشيخ الدكتور عدنان محمد أمامه والشيخ حسن عبد الرحمن على الدعوة والتعليم وإنشاء المدارس ، وفي مدينة صيدا ظهرت أواخر الثمانينات الدعوة السلفية ، وهي اليوم ناشطة من خلال جمعية الاستجابة التي يشرف عليها الشيخ نديم حجازي ، ومدرسة الصحابي عبد الله بن مسعود يديرها الشيخ أبو زكريا هدوي ، وصولاً إلى العرقوب في أقصى الجنوب الذي تأسس فيه نواة عمل سلفي ، المشترك بين هذه المكونات السلفية هو مرجعيتها السلفية العلمية وتركيزها على أولوية الدعوة والتربية ، بعضها نجح في تأسيس مدارس وجمعيات طبية وخدماتية ، وابتعادها عن التسلح والعنف والتسيّس ، في الوقت نفسه بدأ التيار السلفي يتواجد في بيروت ، هذا فضلاً عن توسعه في الشمال في عكار والضنية .
ما بعد انتفاضة 14 آذار
بعد اغتيال رفيق الحريري رئيس الحكومة اللبنانية عام 2005 وخروج القوات السورية من لبنان على وقع انتفاضة 14 آذار ، تم تسوية الأوضاع الأمنية والقضائية للعديد من القوى والشخصيات ، بينها سمير جعجع الذي خرج من السجن بعد أكثر من إحدى عشر سنة ، وميشال عون الذي عاد من المنفى ، وتم إطلاق سراح العديد من الموقوفين الإسلاميين والسلفيين ، وشهدت بذلك الساحة الإسلامية تنشيط لحركة التيار السلفي على وقع حالة الاصطفاف السياسي والمذهبي الذي يشهده لبنان منذ ذلك الحين .
وقد بذلت جهوداً عديدة لجمع وتوحيد الجمعيات والمعاهد السلفية في لبنان والتي تكاثرت بشكل ملحوظ في التسعينات ، لكنها لم تؤد لنتائج كبيرة .
وهذه الجمعيات عموماً غير مسيّسة وغير منخرطة في المجال السياسي العام ، على الرغم من أن بعض شرائح هذا التيّار وجد من المناسب الاشتراك في الانتخابات ، تأثراً بالاتجاه الذي اختارته الجماعة الإسلاميّة ، فترشّح من هذا التيّار حسن الشهّال عام 1992 في طرابلس وداعي الإسلام الشهّال عام 1996 وحصلا على نتائج متواضعة ، إلا أنه من الواضح أن التيّار الوهابي السلفي عموماً لم يحسم بشكل واضح خياراته تجاه المسألة الديمقراطيّة ككل ، فهو في بعض أجنحته يتعامل مع الانتخابات كموسم لطرح الشعارات لا كخيار مبدئي للعمل السياسي ، فضلاً عن أنه لم يقدم خطاباً سياسياً لبنانياً واضحاً حتى الآن .
من الواضح أن الخط الغالب لدى السلفيين اللبنانيين فقهياً هو الخط الإصلاحي الدعوي الخيري ، وهم في الغالب ينحون باتجاه مؤسساتي تربوي ، وتميزوا بصيغة ” الوقف ” حيث يكفي تسجيل أحد العقارات بصيغة الوقف الخيري في المحكمة الشرعية ، لتصبح الجمعية المالكة لهذا العقار تابعة للأوقاف الإسلامية ، ولها الحق بمزاولة نشاطاتها بموجب شروط الوقف بعيداً عن رقابة وزارة الداخلية اللبنانية ولوائحها أو شروطها .
بين الدعوة والتسييس
شهدت هذه المرحلة انتعاشاً سلفياً واضحاً ، شمل مختلف المحافظات والأقضية اللبنانية ، بل أنه امتد ليشمل المدن السنية الرئيسة كبيروت وصيدا فضلاً عن طرابلس ، إلا أنه بقي متأرجحاً بين العمل الدعوي والسياسي ومتصفاً بالتشرذم والتعددية ، ومن الجمعيات السلفية الناشطة اليوم دعوياً ومؤسساتياً : مركز السنة ووقف التراث الإسلامي الذي كان يديره ويشرف عليه الشيخ صفوان الزعبي ، وأصبح اليوم يديره الشيخ نديم حجازي ويشرف عليه بدءاً من نيسان/أبريل 2010، والذي يقيم علاقة قوية مع السلفيين الكويتيين ، وقد نجح هذا التيار في إقامة سلسلة من المؤسسات التربوية والطبية والإسلامية في سنوات قليلة () .
في المقابل ، يعتبر الشيخ داعي الإسلام الشهال نجل الشيخ سالم الأكثر راديكالية وتسيّساً في التيار الإصلاحي الدعوي والأكثر حراكاً ونشاطاً والأكثر إثارة للجدل في الأوساط الإعلامية حتى العام 2010 ، حيث برزت رموز أخرى ، فجمعيته تعرضت عام 1995 إلى الحل بقرار من مجلس الوزراء سبب نشرها بعض الكتب التي اعتبرت حينها معرضة على الفتنة المذهبية () .
يتخذ الشيخ داعي مواقف متشددة من حزب الله ومن النظام السوري الذي يدعمه والذي ضيق على التيارات السلفية في المرحلة التي حكم فيها لبنان ، وارتفعت وتيرة مواقفه بعد أحداث 7 أيار 2008 والتي قام فيها حزب الله بما يعرف بـ ” غزوة بيروت ” وصعد مقاتلوه إلى الشوف في جبل لبنان () ، حين دعا إلى ” النفير العام ” بين شباب أهل السنة للرد على الاجتياح الفارسي حسب تعبيره .
التيار السلفي في لبنان قوة متنامية بين الحركات الإسلامية ، لم يكن العنف في منهجهم ، وهم بهذا حريصون على التميز عن تيار القاعدة ، ويعملون ضمن إطار القوانين ، ولكن بما لا يتعارض وأصول الشريعة الإسلامية وفق قناعاتهم ، هم طاقة إسلامية ناهضة لكنها غير مسيسة وغير موحدة ، يغلب عليها صيغة التيار أكثر من كونها تنظيم ، وهم في غالبيتهم في ظل الاصطفاف القائم في لبنان حالة سنية مستقلة تنظر بحذر شديد لتنامي دور ونفوذ الشيعة في لبنان ، وتحذر من فائض القوة الذي يملكه حزب الله ، لذلك يدعم بعضهم تيار المستقبل بمقدار دفاعه عن السنة وينتقدونه حين يتخاذل عن هذا الدور ، رغم كونهم معادون لبعض توجهاته العلمانية والمدنية .
الثورة السورية وتداعياتها
إن اندلاع الثورة السورية فاقم التوتر في الساحة اللبنانية في ظل الانقسام السياسي والطائفي الحاد والذي انعكس على مختلف الملفات السياسية ، كان موقف غالبية التيارات السلفية يجنح بشدة باتجاه دعم الثورة السورية ، الأمر الذي أدى إلى إشكالات أمنية في طرابلس وعلى جبهة بعل محسن – التبانة ، تلك المنطقة الساخنة التي تنفجر فيها الأوضاع الأمنية كلما وصلت الأمور إلى حلقة صعبة انفجر كل شيء وعاد ملف الموقوفين الإسلاميين ” السنة” في السجون اللبنانية إلى الصدارة ، وهو ملف لا يزال بتّه مؤجلاً منذ العام 2006 دون أن يحاكم أفراده على خلفية معارك مخيم نهر البارد بين الجيش اللبناني وفتح الإسلام حينها ، والتي تزامن معها وتلاها اعتقالات طالت بعض من يعتبروا أبرياء ، تصدر السلفيون المشهد السياسي ، وبرزت أسماء جديدة دفاعاً عن الموقوفين الإسلاميين مطالبة بإطلاق سراحهم ، حيث اختلط ملف هؤلاء مع الأنشطة الداعمة للثورة السورية والرافضة لسياسة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وصمتها عن تدخل حزب الله في سوريا رغم إعلان الحكومة سياسة النأي بالنفس والحياد تجاه ما يجري في سوريا والتي لم يلتزم بها حزب الله .
في خضم هذا الحراك برزت أسماء جديدة في فضاء التيار السلفي أخذت أسماؤها تتردد في المجال السياسي على وقع أحداث الثورة السورية ، والتي كانت معركة القصير إحدى أبرز تجلياتها .
أبرز تجليات المشهد السلفي الجديد مع اندلاع الثورة السورية تمثلت عملياً بظاهرة ” الأئمة الأمراء ” :
تمثلت الأولى في طرابلس من خلال بروز الشيخ سالم الرافعي () إمام مسجد التقوى ، والذي نجح في استقطاب العديد من رموز الحالة السلفية وتكوين مرجعية جديدة ناشطة أكثر انفتاحاً واختلاطاً بالشباب ، وأكثر تسيّساً وانخراطاً في المجال العام ، نشاطه المتزايد ومواقفه الصريحة المؤيدة للثورة السورية وتبنيه منذ اللحظة الأولى مساعدة النازحين السوريين حوله إلى مركز جذب للعديد من الناشطين الإسلاميين ، تميز الشيخ سالم الرافعي بابتعاده عن الإعلام وأسلوبه الذي جذب عدد من رموز الدعوة ، إلا أن الأهم في تعاظم نفوذه ضمن التيار هو استناده إلى خلفية علمية وفقهية وعدد من الدراسات والكتب التي أنجزها ، وهو ما ساعده على أن ينتخب كرئيس لهيئة علماء المسلمين في لبنان ، وهي الهيئة الناشطة والجامعة لعدد كبير من العلماء الشباب ، والتي من خلالها تصدر العديد من المواقف والفتاوى التي تعبّر بشكل متزايد عن مواقف السلفيين في لبنان وتحاول أن تقدم نفسها معبراً عن الطائفة السنية ، وخاصة في نصرتها للثورة السورية وإعلانها على لسان الشيخ الرافعي الجهاد لنصرة أهل الشام رداً على تدخل حزب الله في القصير .
تمثلت الظاهرة الثانية بما يعرف بحالة الشيخ أحمد الأسير ، إمام جامع بلال بن رباح في صيدا ، والذي بدأ بتشكيل خطاب أخذ يستقطب بعض المؤيدين تدريجياً ، ركز فيه على الدفاع عن أهل السنة في لبنان في مواجهة ما يعتبره غلبة حزب السلاح الممثل بحزب الله وهيمنته ، منطلقاً مما اعتبره يوماً أسوداً في تاريخ لبنان لإذلال الطائفة السنية في 7 أيار 2008 يوم اجتاح حزب الله بيروت والجبل بسلاحه .
شكل خطاب الأسير محاولة استنهاضية في إطار البيئة الإسلامية السنية التي يعتبر شرائح عديدة من الفصائل السلفية الناشطة في أوساطها إن تيار المستقبل – بصفته ممثلاً رسمياً للطائفة – مقصرٌ في الدفاع عن مصالحها ، إلا أن عدم أصالة الانتماء السلفي للشيخ الأسير () وحداثة حركته لم تجعله يحصل على ما يشبه التزكية من كل التيارات السلفية ، ولم تسعفه فيما بعد في التحول إلى مرجعية أساسية لهم ، وإن حصل بشكل تدريجي على شيء من التعاطف والتأييد () .
إلا لأن تدخل حزب الله العسكري والمكشوف في سوريا رفع من وتيرة خطابه ودفعه إلى مواجهة سياسية مكشوفة معه ، ترافق معها سعي الشيخ الأسير إلى تكوين نواة عسكرية لحركته ، عبرت عن نفسها من خلال المشاركة رمزياً في معارك القصير رداً على مشاركة حزب الله ، كانت هذه النواة العسكرية على بوابة الجنوب اللبناني بمثابة اللعب بالمحرمات بالنسبة لحزب الله ، لذلك بدأت خطوات لتطويق وحصر هذه الحالة وصولاً الى القضاء عليها وهو ما حصل مؤخراً في 23 و24 – 6- 2013 ، حيث استدرج الشيخ الأسير إلى صدام دموي مع الجيش اللبناني انتهى بخروجه الغامض واحتلال الجيش لمراكزه ومصادرة أسلحته وسقوط عشرات القتلى والجرحى بين الطرفين() .
وتمثلت الظاهرة الثالثة بالشيخ سراج الدين زريقات والذي يعبر بإعلانه عن الانضمام إلى كتائب عبد الله عزام التابع لـ ” القاعدة “، عن تزايد ملحوظ في أعداد اللبنانيين المغادرين لحقل الدعوة السلفية الدعوية باتجاه الخيار المتشدد والعسكري .
ظاهرة الشيخ زريقات بدأت حين أوقفته مخابرات الجيش اللبناني للتحقيق معه بتهمة القيام بنشاطات إرهابية مطلع العام 2011، لكنه ترك حراً بعد ضغوط واستنكارات أبرزها صدرت عن مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني باعتبار الشيخ المذكور أحد العلماء التابعين لدار الفتوى وخطيباً مفوهاً في بعض مساجد بيروت ، وما إن أطلق سراحه بعد ساعات من توقيفه حتى اختفى الشيخ منذ ذلك الحين ليظهر في تسجيل صوتي لكتائب عبد الله عزام يعرض فيه ما يتعرض له ” أهل السنة في لبنان من مظلومية ومضايقات من قبل الجيش اللبناني وحزب الله ، متوعداً حينها بأن الرد القادم سيكون قوياً ” () .
بعد التفجيرين الذين استهدفا السفارة الإيرانية في بيروت في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2013 أطل الشيخ زريقات من جديد ليعلن مسؤولية كتائب عبد الله عزام عن التفجيريين نصرة للثورة السورية ، لتتكرر بعدها عدة عمليات استهدفت مناطق تواجد حزب الله وتجمعات شيعية في الضاحية الجنوبية من بيروت وغيرها ، وعلى الرغم من الضربات الأمنية الموجعة التي وجهتها الأجهزة الأمنية اللبنانية لهذا التنظيم باعتقال ماجد الماجد زعيم التنظيم ومن ثم وفاته في السجن () ومن ثم من خلال تفكيك بعض الخلايا وأهمها خلية نعيم عباس () الفلسطيني الذي تم اعتقاله في الطريق الجديدة في بيروت خلال إعداده لسيارات مفخخة معدّة لانتحاريين ، إلا أن هذا التنظيم أثبت أنه لا يزال يملك القدرة على التحرك من خلال قيامه بعمليات انتحارية جديدة ، وكانت عملية بئر حسن في بيروت دليلاً على ذلك () .
لا تتوقف ظاهرة السلفية الجهادية الآخذة في اختراق بعض البيئات الإسلامية اللبنانية على كتائب عبد الله عزام ، فثمة بعض الإشارات تفيد بأن جبهة النصرة أيضاً قد نجحت في إقامة قواعد وخلايا لها في لبنان على خلفية الرد على حزب الله في عقر داره ومعاقبة بيئته الحاضنة لما يفعله بأهل السنة على أرض الشام .
الخاتمة
تبدو التحديات السياسية والأمنية آخذة بالتحول إلى أولوية لدى التيار السلفي الذي بدأ يتعاظم لديه الشعور بالخطر الوجودي ، وهو ما دفعهم إلى محاولة التوحد أكثر من مرة دون جدوى ، والواقع يمثل الحديث عن التيارات السلفية في لبنان إشكالية كبرى نظراً للتسييس والتداخل الذي رافق هذا الملف منذ أيام الوجود السوري وأسلوب تعامله الأمني معها ، وصولاً إلى ظهور تنظيم فتح الإسلام للعلن في 24-10-2006 المثير للجدل في طريقة ظهوره وتمويله () ، والذي تفكك عملياً حيث التحق من بقي من عناصره بكتائب عبدالله عزام وغيرها في سياق صراعها مع الأجهزة الأمنية اللبنانية لإطلاق سراح الموقوفين الإسلاميين على ذمة تلك القضية ، والذين لا يزالون في غالبهم بلا محاكمة من جهة ، وصراعها مع حزب الله لهيمنته السياسية والعسكرية في لبنان منذ 7 أيار 2008 في لبنان من جهة أخرى ، وعلاقة الكتائب الملتبسة بالقاعدة لأسباب تعود جذورها إلى زمن ” فتح الإسلام ” ، إلا أن عناصر جديدة ستدخل على وقع التداعيات التي أطلقتها الثورة السورية في لبنان ، وخاصة بعد التدخل العسكري العلني من قبل حزب الله لصالح النظام السوري ، هذا التدخل أعاد تأجيج الانقسام المذهبي في لبنان وفتح الباب واسعاً لدخول عناصر القاعدة إلى لبنان .
خلاصة القول ، إن ملف القاعدة والسلفية الجهادية في لبنان شائك يشوبه الكثير من الغموض ويختلط فيه التسييس والتوظيف الأمني ، فضلاً عن التضخيم والاختراقات ، إلا أن السلفية الإصلاحية أو العلمية في عبورها نحو السياسة اللبنانية الشائكة تعرضت عبر مراحل عديدة إلى معوقات سلطوية وأمنية كبيرة ، جعلت من هذا العبور مثقلاً بالكثير من التحديات والالتباسات ، الأمر الذي ترك أثراً بنيوياً على تركيبتها كتيار وخبراتها وخطابها ، وهو لا يزال يحاول حتى اليوم إزالتها