في ٢٤ من هذا الشهر (نوفمبر/تشرين الثاني)، وقبل ٥ أيام، أسقطت تركيا طائرة روسية من نوع سوخوي ٢٤ اخترقت أجواءها بعد تحذيرها عدة مرات. وأعلنت روسيا استنكارها للحادث، وشرع المسؤولون الروس في التصعيد حتى وصل إلى التهديد باتخاذ أقسى الإجراءات تجاه تركيا، كما جاء على لسان الرئيس الروسي.
تطورت العلاقات بين روسيا وتركيا خلال حكم حزب العدالة والتنمية تطوراً كبيراً، ولا سيما في الملف الاقتصادي الذي يشكل عمق هذه العلاقات، مع تنامي هذه العلاقات بشكل غير مسبوق حلت حادثة الطائرة الروسية التي أسقطتها تركيا لتغير من وجه هذه العلاقة، بدا ذلك واضحاً في ردود الفعل والاتهامات بين البلدين، وتعمق الخلاف السابق بين روسيا وتركيا، فيما يتعلق بالملف السوري ومحاولة فرض النفوذ الروسي في سوريا.
من الممكن أن تستغل روسيا أزمة إسقاط طائرتها، في محاولة إخضاع تركيا لرغباتها الاقتصادية والسياسية، وإضعاف دور تركيا في سوريا، خاصة ما يتعلق بدعمها للقوى الثورية المعتدلة، مع صعوبة اللجوء الروسي للخيار العسكري، أو قطع العلاقات مع تركيا كلياً، فوضعها الاقتصادي المتردي، ووجود تركيا في حلف الناتو، يصعب مثل هذه الخيارات.
مقدمة
جاءت حادثة إسقاط الطائرة الروسية يوم الثلاثاء الماضي من قبل مقاتلات تركية كسابقة خطيرة في تاريخ علاقات الدولتين التركية والروسية. وحسب الرواية التركية فقد تم إسقاط طائرة روسية من نوع سوخوي 24 بعد أن اخترقت الأجواء التركية، وسبق تحذيرها مرات عدة، إلا أن تجاهل قائد الطائرة لكل تلك النداءات أدى إلى اعتراضها وإسقاطها وفقاً لقواعد الاشتباك المعمول بها، كما أكدت ذلك مصادر حكومية تركية. في الوقت ذاته، نفت روسيا، في بيان صدر عن وزارة الدفاع، أن تكون الطائرة اخترقت الأجواء التركية، وأكدت أن وسائل المراقبة أشارت إلى أنها كانت تحلق فوق الأجواء السورية.
ظهرَ حجمُ تأثير هذه الحادثة ووقعها على الجانب الروسي من خلال تصريح الرئيس بوتين بعد الحادثة بساعات أن إسقاط الطائرة سيكون له عواقب وخيمة على العلاقات مع تركيا، وأن روسيا قد تلقت طعنة من الظهر من قبل الداعمين للإرهاب، على حد وصفه، ثم إعلان وزير الخارجية الروسي إلغاء زيارته لأنقرة، وتشديده على وقف سفر السياح الروس إلى تركيا. وتواصلت ردود الفعل الروسية ليُعلن عن إلغاء العلاقات العسكرية بين البلدين.
في مقابل التصعيد الروسي أولت الحكومة التركية الحادثة اهتماماً كبيراً، فبعد اجتماع طارئ للحكومة التركية، واجتماع آخر أمني رأسه الرئيس التركي، صرح أردوغان أنه يتعين على الجميع احترام حق تركيا في حماية حدودها. وفي لغة تركية متزنة تجاه الحادثة، أبدى الرئيس التركي انزعاجه من حادثة سقوط الطائرة، وأنه لم يرغب في رؤية ذلك، إلى جانب تأكيد الجيش التركي استعداده للتعاون مع روسيا في مواجهة الإرهاب.
حادثة سقوط الطائرة سرعان ما أحاطتها مجموعة من ردود الفعل العالمية تدعو للتهدئة بين الطرفين، ففي رد فعل أمريكي قال الرئيس أوباما إن من حق تركيا الدفاع عن أجوائها. أما حلف الناتو الذي يضم تركيا فقد علق أمينه العام بقوله: “إن المعلومات التي لدينا ولدى بقية الحلفاء تؤكد صحة المعلومات التركية”، في إشارة إلى دعم الحلف ووقوفه مع تركيا.
فإلى أي حد ستصل تداعيات حادثة إسقاط الطائرة الروسية من قبل الروس؟ وما الانعكاسات التي قد تنجم عن التصعيد الروسي على العلاقات بين البلدين، خصوصاً أن شكل العلاقات التركية الروسية قد تعزز في جوانب استراتيجية مهمة للبلدين؟ وهل ستشهد العلاقات بين البلدين تغيراً كبيراً؟ وإلى أي مدى ستسير تلك التغيرات؟
علاقات البلدين قبل إسقاط الطائرة
العلاقات التركية الروسية قبل حادثة إسقاط الطائرة مثلت حالة من التطور اكتسبت من خلاله علاقات البلدين شكلاً من التعاون التجاري والاقتصادي، حيث أصبحت تركيا خامس أكبر شريك تجاري لروسيا؛ إذ راوحت نسبة وارداتها من روسيا ما بين ١٠ و١١ في المئة من إجمالي وارداتها، كما أنها تستورد أكثر من نصف احتياجها من الغاز الطبيعي من روسيا. وتؤكد أرقام التبادل التجاري بين البلدين أهمية السعي لتعزيز العلاقات بينهما، فقد بلغ مؤشر التبادل التجاري بين البلدين في عام 2014 أكثر من 44 مليار دولار، أما في جانب السياحة فتعد تركيا الوجهة الأكثر اختياراً للسياح الروس، ففي عام 2014 قصد أكثر من 4 ملايين سائح روسي الأراضي التركية.
تركيا وروسيا يهدفان إلى بناء علاقة اقتصادية قوية، عبّر عن ذلك جملة من المشاريع الاستراتيجية للبلدين، فخط نقل الغاز المسمى بخط “السيل التركي” لنقل الغاز إلى أوروبا عبر تركيا، يعد مشروعاً استراتيجياً لكلا البلدين؛ فهو الأقل كلفة للروس من غيره من الخيارات، وتستفيد منه تركيا بشكل كبير؛ إذ يمكن أن تصبح تركيا منطقة توزيع للطاقة في المستقبل. علاوة على ذلك؛ وقعت تركيا وروسيا على إنشاء الأخيرة محطة نووية لتوليد الطاقة في جنوب تركيا، وتعد صفقةً مهمة للجانبين. ويصل عدد المشروعات المشتركة بين البلدين إلى أكثر من ٣٠ مشروعاً اقتصادياً وتجارياً.
كل أشكال التعاون والتبادل التجاري لم تمنع ظهور خلافات بين البلدين حول بعض الملفات، وبالأخص منها ما يتعلق بالشأن السوري، فبينما تعد تركيا نظام بشار نظاماً إرهابياً وترفض استمراره، فضلاً عن دعمه من دول أخرى، تقف روسيا في صف نظام الأسد. وما زاد حدة الخلاف حول القضية السورية هو التدخل الروسي في 30 سبتمبر/أيلول الماضي، الذي وصفته تركيا بالخطأ الجسيم، وأكدت على لسان وزير الخارجية دعمها للمعارضة السورية من أجل سوريا الموحدة. وعلى الرغم من الاختلاف الشديد حول سوريا، فإن العلاقات التجارية بالتحديد لم تتضرر مطلقاً؛ إذ دعا الرئيس التركي خلال لقائه نظيره الروسي على هامش قمة العشرين إلى زيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى أكثر من 100 مليار دولار، في تأكيد للرغبة في تمتين العلاقات وتطورها.
استمرار التدخل الروسي هل يعمق أزمة العلاقات؟
قبل حوالي شهرين انطلقت حملةُ روسيا التي زعمت فيها حربها ضد الإرهاب في سوريا. روسيا التي اعتبرت تدخلها وقوفاً مع حكومة بشار الأسد ضد المجموعات الإرهابية التي تهدد بدورها أمن روسيا أيضاً، هاجمت مناطق سورية عبر مئات الطلعات الجوية بشكل يومي، ويبدو أن الهدف الروسي من التدخل أصبح واضحاً بعد مرور شهرين من بدء الطلعات الجوية؛ وهو قصف القوى الثورية المعتدلة التي تقاتل بشار الأسد، وقد جاء في تصريح المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية على موقع شبكة CNN الأمريكية، أن “معظم الغارات الروسية كانت تصب في مصلحة نظام الأسد، حيث لم تستهدف مواقع لتنظيم الدولة كما يدعي الروس”.
سعي روسيا للقضاء على القوى المعتدلة في الثورة السورية يكشف بالفعل الطرف الذي يشكل خطراً على نظام حليفها الأسد، ولا سيما في حال استمرار بقاء هذه القوى المعتدلة، وضمان تسليحها من الدول الداعمة، وفي مقدمتها السعودية وتركيا التي أكد رئيسها رجب طيب أردوغان، عقب فوز حزب العدالة والتنمية في انتخاباته الأخيرة، استمرار دعم القوى المعتدلة في سبيل إسقاط نظام بشار، ومن ثم فالمواجهة غير المباشرة في سوريا بين روسيا الواقفة مع نظام بشار، وتركيا الداعمة للقوى الثورية السورية، قد تزيد من حدتها الحادثة الأخيرة.
من هنا، فقد أظهر إسقاط الطائرة الروسية على السطح الخلاف الكبير بين البلدين تجاه الأزمة السورية، إذ لم ينته الرئيس بوتين عن تكرار وصفه لتركيا بدعم الإرهابيين بعد الحادثة، فضلاً عن اتهامه لها بشراء النفط من تنظيم الدولة. بدورها نفت تركيا تلك الاتهامات؛ إذ أكد الرئيس أردوغان أن الجميع يعلم من أين تأخذ تركيا النفط والغاز، وأشار إلى أن من يدعم نظام بشار يعلم أنه قاتل ومجرم.
شهدت الأراضي السورية عقب التدخل الروسي، ضرب مواقع القوى المعتدلة، مع حشد نظام بشار لقواته، إلا أن الفصائل الثورية تصدت لأكثر من هجوم من قبل هذه القوات، ومن ثم فغطاء روسيا الجوي لجيش الأسد، والقصف المتواصل، لم يدعم ضعف تلك القوات التي انسحبت من أكثر من منطقة أمام القوى الثورية المعتدلة بدل أن تتقدم، كما أنه لم يؤدِّ إلى أي خسائر فادحة في صفوف القوى المعتدلة، وليس أدل على فشل التدخل الروسي من لغة الرئيس بوتين عقب الحادثة، إذ تارة يتهم تركيا بشراء النفط من داعش، وتارة يتهم الحكومة بأسلمة الدولة.
صمود القوى الثورية المعتدلة أمام قصفها من قبل روسيا، وضعف التعويل على جيش بشار، أوجد خياراً أمام روسيا لخلق جبهة داخلية موالية لها، تفسح المجال لسيطرة أكبر داخل سوريا، فحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا مثّل حليفاً ميدانياً لروسيا كما يبدو خلال الأيام الماضية، وقد أكدت وكالة الأناضول التركية أن حزب الاتحاد الديمقراطي بدأ هجوماً ضد قوى المعارضة في جبل التركمان، تزامن مع هجوم جوي لطائرات روسية ضد هذه القوى، وتؤكد الوكالة إجراء لقاءات بين قيادات الحزب ومسؤولين روسيين كان آخرها بعد بدء روسيا تدخلها في سوريا.
المحاولة الروسية للقضاء على قوى الثورة الموجودة بالقرب من حدود تركيا، ومحاولة استفزاز أكبر الداعمين لهذه القوى؛ وهي تركيا، التي زادت من تأكيدها على دعم القوى المعتدلة الثورية، زاد من عدد اختراقات الطيران الروسي للأجواء التركية، وما يؤكد محاولات الاستفزاز هو تكرر استنكار تركيا لتلك الاختراقات، التي انتهى آخرها بإسقاط الطائرة الروسية.
لذا فالحادثة الأخيرة وتوتر العلاقة مع تركيا فتح الباب أمام الدب الروسي لتوفير المزيد من الوسائل والقوات العسكرية في الأرض السورية، ولعل روسيا لم تعد تراعي عمق العلاقة مع الصديق التركي؛ فقد أعلنت نشر منظومة صواريخ إس 400 في قاعدة حميميم السورية، في أول رد فعلي على الأراضي السورية، وهذه الصواريخ قادرة على مواجهة صواريخ باليستية وطائرات حربية مقاتلة أيضاً، لذا فاتخاذ مزيد من الإجراءات والخطوات الجادة من روسيا تجاه القوى المعتدلة الثورية، ومحاولة إخفاء الفشل الروسي في القضاء على تلك القوى عبر ضخ المزيد من القوات والأسلحة الروسية في سوريا، قد ينعكس بشكل كبير على العلاقات مع الدولة التركية.
التزامات تركيا الداخلية والخارجية
إسقاط الطائرة الروسية لم يكن إلا دفاعاً عن سيادة تركيا وحماية أجوائها وأراضيها، تردد ذلك في كل رد فعل تركي تجاه الحادثة، فلم تكن الطائرة المسقطة هي الأولى في اختراقها، بل سبقها انتهاك طائرات روسية للأجواء التركية، دفع الحكومة التركية لتقديم احتجاجها للروس، والإشارة إلى تفعيل قواعد الاشتباك، فالحكومة التركية أمام التزام وطني داخلي بحماية سيادة الدولة ومنع انتهاك أجوائها، وهذا الالتزام في سبيل حماية تركيا قد يؤثر على علاقة تركيا بأصدقائها، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتحليق بالقرب من الحدود السورية التركية، وكما هو واضح أن دولاً كبرى، من بينها روسيا، مقدمة على حرب قد لا تبدو قصيرة ضد ما يطلق عليه الإرهاب في سوريا.
أما في الشأن الخارجي فيظهر أمام تركيا التزامان يتعلقان بعلاقاتها مع روسيا،
الالتزام الأول: وقوف تركيا مع خيار الشعب السوري منذ قيام ثورته المطالبة برحيل بشار الأسد، وقد تحولت وجهة النظر التركية إلى واقع تمثل في دعمها لفصائل الثورة المعتدلة التي تمثل العدو الأول لروسيا في الأراضي السورية، بالإضافة إلى استقبال أكثر من مليوني سوري على أراضيها، وتأكيد المسؤولين الأتراك عبر سنوات الثورة أنه لا حل للأزمة السورية من دون رحيل الأسد وقيام دولة موحدة، وهذا الالتزام التركي لا يتوافق تماماً مع ما تقوم به روسيا اليوم في سوريا.
الالتزام الثاني: يتجلى في سياسة تركيا الخارجية التي اتسمت بالصداقة، وإضفاء الاستقرار، وعدم الدخول في نزاعات دولية وإقليمية، فسعت تركيا عبر حكومة العدالة والتنمية إلى إنهاء الملفات العالقة مع بعض الدول، واعتماد الانفتاح السياسي والاقتصادي، وتذليل العقبات أمام تحقيق مصالح اقتصادية واستراتيجية، وقد نجحت في ذلك، فحظيت بالاحترام الدولي، وتحولت إلى اقتصاد قوي ومؤثر نتيجة رؤيتها في البعد عن الخلافات. وهذا النسق السياسي في الهدوء والحكمة ونزع فتيل المشاكل قد ينعكس على الأزمة الحالية مع روسيا.
سيناريوهات التوتر والتصعيد
من الواضح أن إسقاط الطائرة الروسية كان محرجاً للحكومة الروسية؛ إذ إنها تدرك ارتباط تركيا بحلف الناتو، وتدرك أهمية علاقتها الاقتصادية مع تركيا، وفي المقابل لا تريد الظهور بموقف المنهزم أمام شعبها، خاصة أنها تقاتل في سوريا وتتوعد بملاحقة الإرهاب والقضاء عليه.
وعليه؛ يمكن تصور :
السيناريو الأول : الذي قد تبدو عليه العلاقة بين البلدين في قادم الأيام في أن يستمر التصعيد الروسي، وربما الإعلان عن قطع العلاقات بين البلدين، وإيقاف كافة أشكال تعاون التجارية والدبلوماسية، وهذا المنحنى قد ينعكس بأثره السلبي على اقتصاد البلدين؛ فحجم التبادل التجاري بين الطرفين كبير، ولا يزال اقتصاد روسيا مهدداً بالانهيار نتيجة العقوبات المفروضة عليها، وقد يصعب على تركيا التي تستورد النفط والغاز بكميات كبيرة مثل هذه الإجراءات، لذا فقد يتواصل التصعيد إلى ما دون قطع العلاقات وإيقافها.
السيناريو الثاني: يمكن أن تذهب روسيا لاستغلال الحادثة والخروج منها بأكثر المكاسب من الحكومة التركية، خاصة أنها تلمح إلى قطع العلاقة مع تركيا، وهذه المكاسب يمكن أن يكون أولها متعلقاً بالثورة السورية؛ من خلال قطع الدعم التركي عن بعض الفصائل المعتدلة، إضافة إلى تحقيق تركيا لمطالب روسيا الاقتصادية والعسكرية، كالحصول على قرض تركي، أو صفقات سلاح جديدة تشتريها تركيا من روسيا، وهو أقرب السيناريوهات تحقيقاً؛ نظراً لإدراك كل من البلدين أن سبيل قطع العلاقات لا يصب في مصلحة شعوبهما، وإن كانت تركيا قد تخرج بأقل الخسائر، إلا أنها تعلم عواقب توتر العلاقات مع روسيا.
السيناريو الثالث: وهو خيار المواجهة المباشرة؛ من خلال قيام روسيا بضربات محدودة لمناطق عسكرية تركية على الحدود التركية السورية، في رد اعتبار على إسقاط الطائرة، وهذا الفعل قد يفجّر حرباً غير محسوبة بين البلدين ، إذا ما وقف حلف الناتو مع تركيا فإن الإقدام على عمل عسكري من قبل روسيا قد يبدو مقيدا بمصالحها الاقتصادية وتوسع ميدان المواجهة الروسية مع دول الشرق فضلا عن تخوفها من دخول الناتو على خط المواجهة ، وهذا ما قد يجعل خيار المواجهة العسكرية ” المباشرة ” خيارا غير مطروح رغم رغبة الروس في رد يعيد الاعتبار لمكانتها الدولية (كإسقاط مقاتلة تركية).