خلال مسيرة مجلس التعاون الخليجي تفردت سلطنة عمان بجملة من المواقف التي بدت بعيدة عن نسق السياسة الخليجية، مع العزوف عن الملفات والقضايا ذات الحساسية التي شهدتها منطقة الخليج على وجه الخصوص، وبينما تواصل عمان سياستها البراغماتية، ولا سيما فيما يتعلق بأكثر المهددات لأمن الخليج؛ وهو المهدد الإيراني، وتقديمها نموذجاً للدولة الوسيطة بين الأطراف المتنازعة، يبقى مستقبل الاختلاف السياسي بين عمان وباقي دول مجلس التعاون محل جدل وأهمية من حيث توحيد الجهود الخليجية في درء الأخطار، ومواجهة التحديات، والدفع نحو آفاق موحدة في المواقف السياسية والمجالات الاقتصادية والأمنية.
مقدمة
أصبحت المنطقة التي تحيط بدول الخليج العربية أكثر اضطراباً وأقل استقراراً منذ أن أُعلن تأسيس مجلس التعاون الخليجي عام 1981، وقد دفعت عدة مخاوف، في مقدمتها الثورة الإيرانية، دول الخليج إلى الشعور بأهمية التكامل وتنسيق الجهود السياسية والحفاظ على أمنها، فحافظت دول مجلس التعاون بقدر كبير على كيان المجلس الذي يجمعها، وعبرت عن مواقف متحدة في قضايا عديدة، ونجم عن إرادة التقارب عدد من الاتفاقيات الاقتصادية والأمنية التي لم تشكل أرضية مهيئة للوصول إلى الاتحاد الخليجي؛ لمحدودية ما اتفق عليه، ولوجود اختلاف قائم بين بعض دول المجلس، ويمكن أن تشكل سلطنة عمان حالة منفردة بالنسبة إلى وضع باقي دول الخليج؛ إذ جنحت عن سياسة التوتر والاحتكاك بالقضايا والفاعلين الإقليميين، مع البعد عن أي تجاذبات طائفية، وهي تعبر منذ تولي سلطانها قابوس مقاليد الحكم عن سياسة العزلة وتجنب المشاكل، بيد أنها لم تعش عزلة تامة؛ فعلى الرغم من حالة التوتر والصراع بين إيران والعراق، وما جرى عقب الغزو العراقي للكويت، فإن عمان وقفت على الحياد الذي لم يغضب أياً من الأطراف، وواصلت دبلوماسيتها الهادئة في الحفاظ على علاقاتها مع كل تلك الدول، حتى مع وَضْع القطيعة العربية مع مصر على إثر توقيع اتفاقية كامب ديفيد، ظلت عمان محايدة من دون موقف، وأبقت على علاقاتها مع الدولة المصرية.
وسجلت العلاقات العمانية مع إيران شكلاً مغايراً لما هي عليه علاقة دول الخليج بإيران، التي يمكن وصفها بغير المستقرة، إذ تميزت العلاقة العمانية الإيرانية بالتعاون والشراكة، بلغت مع مساهمة عمان في صياغة الاتفاق النووي بين الغرب وإيران مستوى كبيراً، ويضاف إلى انتهاج عمان سلوكاً منفرداً ومختلفاً عن باقي دول الخليج في الملف الإيراني، تعاملها مع الملف السوري؛ فقد أبقت على علاقتها مع نظام بشار، وكان تبادل الزيارات بين مسؤولي البلدين كناية عن نظرة عمانية مختلفة، ظهرت مجدداً من خلال حيادها إزاء قيام التحالف العربي ضد الانقلاب الحوثي في اليمن، وامتناعها عن المشاركة أو حتى التصريح ضد ما قامت به جماعة الحوثي.
لذا؛ ما أبعاد اختلاف السياسة العمانية عن باقي دول الخليج في المستقبل؟ وهل سيستمر مسار السياسة العمانية في جنوحه عن الاتجاه الخليجي؟
سياسة خارجية مستقلة
أفرزت التحديات التي برزت في منطقة الخليج العربي، ومن بينها الحروب المباشرة لدول الخليج وغير المباشرة، مواقف شبه موحدة لدول مجلس التعاون، وسعت دول المجلس إلى الوقوف ضد كل المخاطر التي هددت أي جزء منها، كما في غزو العراق للكويت، ووقوف التحالف العربي في وجه انقلاب الحوثيين في اليمن، لكن سلطنة عمان التي تحاول أن تمسك العصا من المنتصف في كل مرة منذ أن تولى القابوس سعيد مقاليد الحكم في عمان عام 1970، استطاعت مع كل تلك الأحداث ألا تقف ضد أحد، وكان ذلك هو الوجهَ البارز الذي شكل سياسة عمان الخارجية وطبيعة علاقاتها مع جيرانها.
ومع تسارع الأحداث في منطقة الخليج العربي وتطورها، ووصولها في أحيان إلى مواجهات وحروب، فإن السياسة الخارجية العمانية اتسمت بالتالي:
- البراغماتية الهادئة تجاه جل الأحداث في المنطقة، فحيثما اتخذ مجلس التعاون موقفاً واضحاً حيال قضايا تهم دول المجلس كانت عمان تلزم الصمت والهدوء في مواقفها، وعدم الخوض سياسياً فيما يجري، مع الحفاظ على العلاقات مع الدول الأطراف، وهو ما يفسَّر بشكل آخر بالتعاطي البراغماتي في علاقاتها الخارجية مع الدول، على خلاف بقية دول المجلس، فما جرى من دعم خليجي للعراق في حربه ضد إيران لم يسمح لعمان أن تكون ممولاً لطرف ضد آخر، فظلت مبقية على وضع علاقاتها مع إيران والعراق في الوقت نفسه، ومحتفظة بخطوط اتصال حتى لو لم تكن لها مصالح مباشرة، وتكرر الحال مع غزو العراق للكويت؛ إذ لم تشأ سلطنة عمان الاصطفاف المباشر ضد العراق، فحالت سياستها الهادئة دون قطع العلاقات مع العراق، ومع تجدد حالات الاضطراب في المنطقة بعد الربيع العربي تمسكت عمان بخيارها السياسي الذي اقتضى ألا تعادي أو تقرب أي طرف على حساب أطراف دولية أخرى؛ فبينما قطعت دول الخليج علاقاتها مع نظام بشار، وصدر عن مجلس التعاون ما يؤيد حق الشعب السوري في ثورته، استمرت عمان في مخالفة الموقف الخليجي إذ بقيت على اتصال مع نظام بشار والمعارضة في الوقت ذاته، واستقبلت وزير خارجية بشار، واستقبلت كذلك وفداً من الائتلاف الوطني السوري. وفي تعليق على عدم مشاركة عمان في التحالف العربي في اليمن قال وزير الخارجية العماني: إن عمان ليست جزءاً من عاصفة الحزم؛ لأن عمان بلد سلام.
دور الوساطة أحاط من جديد بالسياسة العمانية ليمنحها الفاعلية، وليشهد كذلك على سياسة عمان المحايدة، غير أن دور الوساطة العمانية ليس بالدور القديم، فالدبلوماسية المتحركة لعمان في الوساطة بين إيران والغرب فيما يخص الملف النووي والتوصل إلى حل نهائي لم يكن بشكل ظاهر، غير أنه كان محورياً وغير علني، وهو ما أكده نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية حسين عبد اللهيان؛ من أن عمان دفعت وأسهمت إيجاباً في المفاوضات النووية البناءة، ومن جديد يبدو دور التقريب العماني بين أطراف النزاع في اليمن، ومع أن دول الخليج تعاملت مع الانقلاب الحوثي بما يقتضيه واجب الدفاع عن أمن المنطقة، إلا أن عمان ظلت من دون موقف واضح، لتحل بعد ذلك مكان الوسيط السياسي ونقطة الوصل بين طرفي الصراع، فقد صرح وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي عن استعداد بلاده للقيام بدور لمساعدة اليمنيين والأمم المتحدة لتشجيع الحوار بين طرفي الأزمة، ويتأكد أن سلطنة عمان لا تتعامل مع أزمات المنطقة بمنطق الصديق والعدو، فهي تعدُّ الكل صديقاً لها، حتى في حالة الاعتداء على دولة خليجية، لم تلجأ السلطنة إلى قطع العلاقات، وهي بدور الوساطة تسعى إلى خلق بيئة مستقرة مجاورة لها؛ وذلك لعدم رغبتها في الدخول في أي صراع، ولكونها تحتل موقعاً جغرافياً استراتيجياً بإشرافها على مضيق هام جداً، يعد شريان الحياة للعالم، ما يجعل الصراع من حولها مهدداً حقيقياً قد يؤثر سلباً في الموقع الجغرافي الذي تمتاز به.
علاقة عُمان مع إيران
امتداد العلاقة بين عمان وإيران جاء في مقامه الأول سياسياً؛ ففي عهد الشاه الإيراني دعمت إيران حكومة السلطان القابوس ضد ثوار ظفار الشيوعيين عام 1970، وهو ما يعد بداية علاقة لم تكن عادية لبلد عربي وخليجي مع دولة إيران، فقد كان القابوس سعيد أول حاكم عربي يزور طهران بعد تولي الرئيس الإيراني روحاني الرئاسة في 2013، وكانت عمان كذلك هي الدولة الأولى في مستهل زيارات روحاني الخارجية.
لم تحتج متانة العلاقات العمانية الإيرانية لإعلانها؛ فالدور العماني غير المعلن والمستمر لسنوات في محاولة الوصول إلى اتفاق إيران مع الغرب قد آتى أُكله، حيث شكل مساراً مخالفاً لما كانت تتوجس منه دول الخليج تجاه إيران وبرنامجها النووي، فإيران لم تكف يدها إلى اليوم عن استفزاز دول الخليج والتدخل في بعض شؤونها الداخلية، فضلاً عن دعمها لحركات الاضطراب في اليمن والبحرين، وهو ما تراه عمان في المقابل محافظة على علاقات مهمة وتاريخية لها مع جارتها إيران مهما كان لإيران من دور سلبي تجاه دول الخليج، إذ أكد وزير الخارجية العماني “أن عمان تربطها بإيران علاقات جيدة، وأنها تتسم بحسن الجوار”، في إشارة إلى حياد عمان في قضية تهديدات إيران لدول الخليج، ثم إن إشراف كل من عمان وإيران على مضيق هرمز الاستراتيجي قد أضفى على العلاقات مزيداً من التعاون، مع النأي عن خلق أي تهديد يضر بمصالح البلدين المرتبطة بالمضيق.
أما الوجه الاقتصادي للعلاقة بين عمان وإيران فلا يبدو أنه أقل أهمية من البعد السياسي، ففي دراسة الاستراتيجية الإيرانية في الخليج العربي التي أعدها مركز صناعة الفكر، بدا أن التعاون في مجال الطاقة هو الأهم في علاقات البلدين الاقتصادية، إذ وقَّع البلدان اتفاقاً يقضي بمد خط أنابيب لتصدير الغاز الإيراني إلى عمان، حيث سيصل حجم الصادرات منه إلى قرابة 10 مليارات متر مكعب سنوياً، وفي جانب التبادل التجاري بين البلدين بلغ حجمه سنوياً مليار دولار تقريباً، في حين أشار وزير التجارة والصناعة العماني إلى أن هناك 259 شركة إيرانية تعمل في عمان، وهو ما يؤكد الأنباء حول اتفاق الجانبين على إنشاء غرفة تجارية مشتركة لتعزيز التنسيق والتبادل التجاري، كما أعلن عن ذلك في 2014، وقد نقلت صحيفة تفاهم الإيرانية، بتاريخ 9 سبتمبر من العام 2015، وهي مقربة من الرئيس روحاني، تصريح حميد جيت جيان، وزير الطاقة الإيرانية، بعد لقائه أحمد بن محمد الشهي وزير شؤون البلديات والمجاري المائية بعمان، بأن إيران لا ترى أي حدود أو شروط مسبقة لمساعدة عمان في بناء السدود وحل مشكلات الري هناك، وأشار الوزير العماني كذلك إلى أن مصادر المياه العذبة في عمان تقع على الحدود الساحلية، وهو ما أدى إلى زيادة نسبة الملوحة فيها، وقلة كميتها، وتواجه عمان عجزاً في مياه الري الزراعي في السنة القادمة بنسبة 300 مليون متر مكعب، وأن أكثر من 60% من احتياطي المياه العذبة لدى عمان تتبخر خلف السدود الموجودة.
اختلافات داخل المجلس
يبدو أن سلطنة عمان قد ارتضت بشكل مجلس التعاون الخليجي وحاله القائم بالتعاون دون المضي إلى ما هو أبعد من ذلك، ويمكن أن يتسبب أي تقارب أو تشكيل وحدات تضع سياسات أكثر وضوحاً وإلزاماً لأعضاء للمجلس، بإخلال وبعد عن سياسة عمان المتصفة بالحياد والبعد عن مسارات المواجهة والعداء، وهو ما اتضح جلياً لدى دعوة الملك السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز في قمة الرياض عام 2011 إلى انتقال المجلس من التعاون إلى الاتحاد وضرورة ذلك، حيث قوبلت تلك الدعوة بالرفض العماني الذي جاء على لسان وزير خارجيتها، والتهديد بالانسحاب من المجلس حال المضي نحو هذه الخطوة، ونقلت وكالة رويترز للأنباء عن سيف المسكري، وهو دبلوماسي عماني سابق، قوله: “لا الشعب العماني ولا قيادته سيوافق على الذوبان في كيان أكبر”، وبرز على السطح أيضاً الخلاف العماني الإماراتي مع باقي دول المجلس فيما يتعلق بالعملة الموحدة والسياسة المالية للمجلس، فقد أبدت عمان تحفظاتها على مشروع العملة الموحدة، في حين أكدت وجود فروق وخروقات في تعاملات بعض دول الخليج، وبعد أن استضافت عمان القمة الخليجية عام 2008 لم يحضر السلطان قابوس أياً من القمم التالية، ما قد يبدو إشارة إلى عدم الرضا العماني عن اتجاه السياسة الخليجية.
سيناريوهات التباين العماني الخليجي
تتزايد المخاطر المحيطة بدول الخليج، وتتعاظم التهديدات من حولها، سواء الخطر الإيراني أو خطر التنظيمات المتطرفة، وحتى تقف دول الخليج لحماية أمنها الإقليمي، فإن فرصة التقائها تحت سقف سياسة واحدة خيار إيجابي لضمان توحيد الجهود المتنوعة ضد تلك التهديدات، ولعل التحرك بصفة جامعة في شكل وحدة متناسقة سياسياً مكسب استراتيجي قد يؤدي التفريط فيه إلى احتمال وقوع أخطار تعصف بأمن دول الخليج.
وإذ أضحت عمان في موقع ربما يبدو بعيداً عن النسيج الخليجي الذي يسعى لدرء الأخطار من حوله، فقد يؤول الاختلاف السياسي بينها وبين دول الخليج إلى أحد السيناريوهات التالية:
أولاً: إن المزيد من المخاوف، ومعها الإصرار الخليجي على مواجهة الأخطار المحدقة، المتمثل في السياسة السعودية الحازمة في وجه التمدد الإيراني، بالإضافة إلى أن انخفاض أسعار النفط المستمر الذي تعتمد عليه دول الخليج في اقتصادها سيؤدي إلى احتمال حدوث اضطراب داخلي في اقتصاد دول المجلس، كل ذلك قد يدفع إلى انخراط سلطنة عمان في مزيد من العمل المشترك مع المجلس ضد الأخطار المتمثلة في إيران والتطرف، والقبول بتدابير اقتصادية مشتركة داخل المجلس من شأنها المحافظة على مستوى الرفاهة الموجود في الخليج، ومع ارتباط عمان وإيران بعلاقات مميزة، فإن أي إجراء سياسي موحد لدول المجلس تجاه إيران قد لا تقبل به عمان، وهو ما قد يدفع بعض دول الخليج إلى اتخاذ مواقف جماعية بعيداً عن قبة المجلس، ولعل الجانب الاقتصادي والأمني سيكون محل تقارب أكثر بين عمان وباقي دول المجلس، وهو السيناريو الأقرب تحقيقاً.
ثانياً: بعد التصعيد الأخير من السعودية ومعها بعض دول الخليج بقطع العلاقات مع إيران، قطيعة قد تستمر طويلاً، فإن بعض دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية، تضع أولوية كبيرة للوقوف ضد المشروع الطائفي الإيراني، وما يمكن استشرافه بعد قطع العلاقات والتصعيد الإيراني تجاه الشؤون الداخلية للخليج قد يحتم على منظومة مجلس التعاون اتخاذ موقف موحد وبيان باسم المجلس يدين السياسات الإيرانية، إلا أن المتوقع من عمان الابتعاد عن قرار كهذا، وقد لا تكون على إثره عمان عضواً في المجلس إن اتجه الخليج إلى الإدانة الجماعية لإيران، ولذلك ستحرص السعودية على المحافظة على كيان المجلس والبعد عن انشقاق أحد أعضائه، وهو ما يجعل احتمالية حدوث هذا السيناريو ضعيفة.
ثالثاً: من الممكن أن تستمر علاقة سلطنة عمان بسياسات ودول المجلس كما هي عليه الآن، فما عرف عن عمان من سياسة مسالمة ومحايدة وبعيدة عن نيران المشاكسات السياسية، وما ينعكس من جراء هذه السياسة من استقرار سياسي لعمان، لن يدفعها إلى الدخول في مناكفة، خاصة مع جارتها إيران، فعمان لا ترى نفسها دولة إقليمية لها ثقلها وطموحاتها في المنطقة، ومن ثم قد تستمر عمان الدولة غير المندفعة والمحافظة على ود الجميع، ومنهم دول المجلس، ولهذا الوضع أثره غير الإيجابي في دول الخليج المناوئة لإيران في حال تطورت العلاقات العمانية الإيرانية، وخاصة في جانبها الاقتصادي، حيث إن بذل الجهود في حصار إيران وكفها عن التدخل في شؤون دول الخليج قد لا يجدي كثيراً مع تطور علاقاتها مع عمان.