كان لقاء المعارضة السورية في الرياض تطوراً قوياً ولافتاً في المشهد السوري، حيث اجتمع السياسيون مع العلماء مع العسكريين الثوريين، وكانت الصورة العامة تحكي قصة توافق واضح بين هذه المكونات؛ ذلك لأن كثيراً من المراقبين للحدث يرون أن شَرذمة المعارضة السورية وعدم توافقها وانسجامها، كان سبباً من أسباب التراجع العام، وواحداً من المشكلات التي تواجه تحقيق نتائج إيجابية على كل المستويات، لذا فقد أدى اجتماع المعارضة، مع توافق نسبي، إلى قوة الموقف وصلابة المطالب في نهاية المطاف.
بيد أن بعض الساسة ما زالوا إلى اليوم يرون أن دخول العسكريين على الخط السياسي يمثل حالة من حالات خلط الأوراق، التي ستؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها، والأصل أن تحترم التخصصات، ويبقى كل في مجاله، وبهذا تكون النتائج آمنة، والصلاحيات محددة مبينة.
في المقابل هناك من يقول إن هذا الرأي صواب في وضع طبيعي وحالة مستقرة، أما أن يكون الأمر كما هو في سورية فلا بد من مثل هذا التوافق، الذي سيؤدي إلى التنسيق القوي والتعاون المثمر، ويقضي على لغة الفرقة القائمة وتقاسم هم المسؤولية، في ساحة عمل تعاني كثيراً من الإشكالات والتعقيدات، والمسألة في النهاية دماء تراق، وبلد يهدم، وأرواح تزهق، وفي وسط هذا التحدي الكبير تأتي هذه الخطوة الواقعية العملية.
وبناء على هذا التوافق، من خلال لقاء الرياض، اختيرت الهيئة العليا للمفاوضات، وانتخب الدكتور رياض حجاب، رئيسُ الوزراء السابق المنشق عن النظام، رئيساً لها، لاعتبارات متعددة؛ منها معرفته بالنظام ودهاليزه وألاعيبه، ومنها خبرته السياسية، إضافة إلى سمعته الحسنة في فترة انشقاقه.
وكان الاتفاق على القبول بالمفاوضات والولوج إلى العملية السياسية، ضمن محددات أساسية تكون ثوابت لعملية التفاوض، ومنها المبادئ الخمسة التي توافق عليها كثير من الساسة والثوريين والعلماء والشخصيات الوطنية، والمنظمات المجتمعية؛ وفي مقدمتها ألا يكون للأسد، ومن على شاكلته ممن ارتكبوا جرائم بحق أبناء الشعب السوري، أي دور في العملية السياسية، حتى في المرحلة الانتقالية، فضلاً عن المرحلة المستقبلية، وأن تكون هناك هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات، مع إعادة هيكلة الجيش، وبناء الأجهزة الأمنية من جديد.
واشترط الوفد المفاوض قبل الدخول في العملية السياسية، وقف قتل المدنيين، وفك الحصار عن المناطق المحاصرة، وإطلاق سراح المعتقلين بدءاً بالنساء والشيوخ والأطفال.
حدثت بعض الحلحلة في الموقف، ودخلت بعض المساعدات إلى المناطق المحاصرة، ثم تم التوافق على هدنة إيقاف إطلاق النار، التي اختُرقت من أول يوم بالطائرات الروسية، وما زالت الاختراقات شديدة، خصوصاً تلك التي وقعت في معرة النعمان وكفر نبل، حيث قتل العشرات من المدنيين.
أجندات الطرفين
تتمسك المعارضة بهيئة حكم انتقالي لا مكان للأسد فيها، مع إعادة بناء الجيش وهيكلته، وتفكيك الأجهزة الأمنية وتأسيسها من جديد، ثم صناعة دستور جديد، وفي ضوء ذلك تجري عملية الانتخابات بإشراف الأمم المتحدة.
أما النظام السوري، ومِن ورائه الروس، فيصرون على أن الأسد خط أحمر، والأمر لا يعدو تأسيس حكومة وطنية، ثلثها للنظام، وثلث للمعارضة، وثلث للمستقلين. وهنا بدا التباين بين الأفرقاء الذين يجلسون على مائدة التفاوض، واعترف المبعوث الأممي دي مستورا بهذا.
وجرت جولات أولى وثانية بتشابك غريب في طريقة المفاوضات والمداولات، ولما رأى وفد المعارضة أن النظام السوري يعمل على كسب الوقت فقط، أخذ قراره بتعليق المفاوضات، وخرج الدكتور رياض حجاب من جنيف بمؤتمر صحفي يعلن ذلك، وكان أبرز ما جاء في خطابه:
- اتخذنا قراراً بتعليق مشاركتنا بالمفاوضات، ولن نكون في هذه العملية ما لم تصل المساعدات ويتوقف القصف وتتوقف معاناة شعبنا.
- الهيئة العليا للمفاوضات طالبت المجتمع الدولي بأن يكون هناك تنفيذ للالتزامات الدولية.
- لم يحدث تقدم في الجانب الإنساني؛ حيث وصلت المساعدات إلى 6.5% من المحاصرين.
- 2044 شخصاً تم اعتقالهم، بينهم نساء وأطفال، منذ صدور قرار الأمم المتحدة 2254.
- عدد المدن المحاصرة زاد، رغم تدخل الأمم المتحدة.
- وزير الخارجية الأمريكي وعد بدخول مساعدات إلى داريا ولم يحدث ذلك.
- جئنا إلى جنيف من أجل انتقال سياسي مبني على القرارات الدولية.
- هدفنا إقامة هيئة حكم انتقالي ذات صلاحيات واسعة، لا مكان فيها لنظام الأسد.
- قدمنا 17 مذكرة لدي مستورا ونريد منه أجندة واضحة وجدولاً زمنياً واضحاً للانتقال السياسي.
- نقول لأبناء شعبنا بأن بشار الأسد لن يبقى في السلطة، ولن يفلت من العقاب، ولن نقبل إلا أن يذهب للعدالة.
- نقول لنتنياهو: الجولان أرض سورية وستعود سورية.
- لا وجود للهدنة مع استمرار إيران بإرسال قواتها ومع القصف الروسي.
- ندعو مجلس الأمن للاجتماع وإقرار وجود مراقبين دوليين لمراقبة الهدنة ورصد الخروقات.
- السلاح تم منعه عن الفصائل السورية مع بدء الهدنة بحجة الهدنة، بينما تمد روسيا النظام بالسلاح.
- لدينا الكثير من البدائل لإنهاء النظام.
- الجامعة العربية تلتزم الصمت إزاء ما يحدث في سوريا.
- أقول للفصائل المسلحة لا تتركوا السلاح حتى يسقط بشار الأسد.
- سأغادر جنيف اليوم وعدد من أعضاء الهيئة يسافرون منذ يوم أمس.
من نتائج تعليق المفاوضات من قبل هيئة التفاوض المعارضة:
لقي قرار التعليق موافقة بقية الفصائل المعارضة؛ من ثوريين وسياسيين، ووافقوا على هذه الخطوة وباركوها، وأعلنوا مساندتهم لها، وصدرت عدة بيانات تشي بهذا المعنى، وتشد على يد حجاب والفريق المفاوض، وتصلب موقفه، على ألا يضعفوا بل يضغطوا حتى نخرج من عبثية المفاوضات إلى جدية الحل السياسي، الذي أعلنت قبوله هذه الفصائل، على شرط أن يحقق أهداف الثورة، ويلتزم بمبادئها الأساسية.
ومن اللافت أن هناك ضغطاً من دول عدة صديقة للشعب السوري، مثل تركيا وقطر، على عودة وفد المعارضة إلى طاولة المفاوضات، ويَعدُّون المضي في هذا المسار السياسي هو بداية الحل، ولا يصح التفريط بهذا الخيار على الإطلاق.
أما لافروف والروس فيراهنون على انقسام الوفد المفاوض، وصرحوا بأن خطوة التعليق ليست محل اتفاق بين المعارضين المفاوضين، ويزعمون أن قسماً منهم يتواصلون معهم مؤكدين المضي في طرق المفاوضات والحل السياسي، ويراهن الروس على المضي في المفاوضات من خلال خيارات الوفد الآخر، أو الوجه الآخر للمعارضة، وعن هذا يقول لافروف: إذا كانوا في الهيئة التفاوضية يريدون المقاطعة فيمكنهم ذلك، لن تكون هذه مشكلة كبيرة بالنسبة إلينا؛ لأنهم ليسوا الممثلين الوحيدين للمعارضة السورية.
ورأى المبعوث الروسي في جنيف (أليكسيبورودافكين) أن قرار الهيئة بالانسحاب خطأ؛ لأن أي تسوية سياسية لا تتم إلا من خلال التفاوض، وزاد: تصلنا الآن معلومات بأن الجزء البنَّاء في وفد الهيئة غير موافق على هذا الموقف، وهذا ما كان متوقعاً؛ فالمعارضون العاقلون يجب ألا ينساقوا خلف المتطرفين. لافتاً إلى أن مركز المصالحة في حميميم يضم 60 جماعة معارضة.
وقال لافروف في مؤتمر صحافي مع نظيره الفرنسي (جانمارك إيرولت) إن المفاوضات ليست مجمدة، إذ بمعزل عن مجموعة الهيئة العليا للمفاوضات يشارك في المفاوضات وفد الحكومة ووفود مجموعات اجتمعت في موسكو والقاهرة وآستانا ومجموعة حميميم، منتقداً السلوك المتقلب لوفد الهيئة العليا.
من جهته طالب أوباما نظيره الروسي بالضغط على بشار الأسد لوقف الهجمات القتالية، والالتزام باتفاق وقف الأعمال العدائية الذي توصلت إليه الولايات المتحدة وروسيا، وقال مسؤول بوزارة الخارجية الأمريكية، إنه يجب على روسيا استخدام نفوذها على حكومة الأسد لوقف الهجمات التي تهدد اتفاق وقف الأعمال القتالية القائم منذ سبعة أسابيع، وكذلك محادثات السلام في جنيف، ونفى وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، يوم الاثنين، تقارير إعلامية بأن موسكو وواشنطن تجريان مفاوضات سرية بشأن سورية خارج إطار المحادثات السورية الحالية في جنيف، وأضاف في إفادة صحفية: “ليست هناك محادثات سرية جارية بين روسيا والولايات المتحدة”.
السيناريوهات المحتملة في المشهد السوري
هناك عدة احتمالات بشأن التطورات القادمة في المشهد السوري، ومنها:
1.حدوث انفراج بشأن الوضع الإنساني؛ إغاثياً وطبياً، وفك حصار، وإطلاق سراح معتقلين، يؤدي إلى العودة إلى مائدة المفاوضات والحل السياسي.
ينتج عن ذلك توافقات أولية بين القوى الكبرى بإرادة جادة لحل الأزمة، يكون من أسسها الخلاص من الأسد بطريقة ما، وهذا لا يأتي بين عشية وضحاها بل يحتاج إلى وقت كاف، والرضا عن البديل، وتحقق مصالح الكبار، وسياق زمني مناسب، ويبدو أن هذا الخيار ما زال بعيد المنال، ويصعب تحققه حسب معطيات الواقع.
2.السيناريو الآخر انهيار المفاوضات، واستبعاد الحل السياسي، والعودة إلى تصلب موقف المعارضة عسكرياً؛ من أجل إعادة التوازن على الأرض تمهيداً لحل عسكري سيكون لمجموعة من الدول أثر فيه، وستؤدي إلى نهاية الأسد وإسقاط نظامه، مع رسم متساو لخريطة طريق في رسم معالم سورية الغد، ويسبق ذلك تجهيز محكم لليوم التالي، يكون قد درس بدقة. والذي يظهر أنه في نهاية الأمر لا بد من هذا الخيار، بصورة ما، وإن اختلفت بعض صور المشهد العام لهذا السيناريو؛ تقديماً أو تأخيراً، حذفاً أو زيادة، تعديلاً أو تصحيحاً، ولسان حال أصحاب هذا الاحتمال يقول بطريقة العمل على سياسة النفس البطيء، ويؤخرون هذا الحل ليوم يرون فيه اكتمال أدوات اللعب في مربعه، لتحقيقه واقعاً على الأرض.
3.السيناريو الثالث هو إطالة عملية المفاوضات، بهدف كسب الوقت، من خلال صفقة بين الكبار، تسوق لإعادة إنتاج النظام، وإجراء مصالحة شكلية، وتغييرات غير جوهرية، مع العمل الجاد والفاعل للقضاء على الفصائل العسكرية كلها وتفكيكها، باسم محاربة الإرهاب، وهكذا يسدل الستار على قضية طالت عدة سنوات، وأحرقت الأخضر واليابس، ويظهر أن هذا السيناريو يصعب تحققه، ومقدمات هذا الموضوع- على الرغم من الحديث الكثير عنه- ليست متوافرة، وشروطه الموضوعية لا تلوح بوادرها في الأفق السياسي العام.