تصاعدت في الفترة الأخيرة حدة التوتر بين الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي من جهة، وبين تيار الانفصال في الحراك الجنوبي وقوات الحزام الأمني (السلفية) الموالية لدولة الإمارات العربية المتحدة من جهة أخرى، حيث يسيطر الحزام الأمني على المناطق الحيوية في مدينة عدن (عاصمة اليمن المؤقتة)، وهو ما دفع الرئيس هادي إلى إصدار قرارات تقضي بإقالة محافظ عدن عيدروس الزبيدي، ووزير الدولة هاني بن بريك، وإحالة الأخير للتحقيق.
وقد قوبلت تلك القرارات بردود فعل غاضبة من قبل بعض قيادات الحراك الجنوبي وقواعده، ودعت إلى حشد شعبي يوم الخميس الفائت الموافق 5 مايو/أيار 2017، أُعلن فيه ما يسمى بـ (بيان عدن التاريخي)، الذي رفض إقالة الزبيدي، وفوضه برئاسة التكتل الذي يتولى إدارة الجنوب وتمثيله، حسب البيان، وأكد الإعلان المضي قدماً فيما سمي بمسار الاستقلال.
تزامن ذلك مع غضب إماراتي تبدى من خلال وسائل الإعلام الإماراتية وبعض مسؤوليها، ووصل الأمر إلى الدعوة لنزع الشرعية عن الرئيس اليمني، بيد أن لقاء الأخير بالعاهل السعودي، أظهر وقوف المملكة إلى جانب القرارات الرئاسية، وأدى من ثَم إلى اختفاء التوترات الميدانية في عدن، وخفف من حدة الهجمة الإعلامية الإماراتية على الرئيس هادي.
كل هذا أثار تساؤلات حول المسارات المتوقعة للتطورات في العاصمة اليمنية المؤقتة عدن، والتداعيات التي يُمكن أن تتركها الصراعات في طرف الشرعية وداعميها، على المعركة ضد طرفي الانقلاب (الحوثي وصالح)، وعلى النفوذ الإيراني في جنوب اليمن وشماله.
إيران وتيار فك الارتباط
تسلل النفوذ الإيراني في اليمن خلال العقدين الأخيرين، محمولاً على الحوثيين في أقصى شمالي اليمن من جهة، وتيار فك الارتباط بجنوبي اليمن من جهة ثانية، ويعد الأخير أحد تيارات الحراك الجنوبي الذي ظهر منذ عام 2007 تقريباً، ويطالب علناً بإنهاء الوحدة وفك الارتباط.
وقد ارتبط تيار فك الارتباط بقيادات المعارضة في الخارج، وخاصة زعيم الحزب الاشتراكي السابق، علي سالم البيض، الذي طرح على دول الخليج دعم تقسيم اليمن وإقامة دولة الجنوب، غير أن هذه الدول رفضت ذلك، وأظهرت حرصاً ودعماً لوحدة اليمن واستقراره، ما دفع (البيض) إلى طلب الحصول على دعم من إيران، التي أبدت تجاوبها مع طلبه ومن ثَم انتقل إلى الضاحية الجنوبية في بيروت؛ ليشرف منها على الأعمال اليومية لبعض فصائل الحراك، ويوفر لها الدعم المالي والسياسي والإعلامي القادم من إيران وحلفائها في المنطقة، وبذلك صارت إيران مصدراً رئيساً لدعم الحراك؛ بالأموال والتدريب والعمل الإعلامي والتنسيق السياسي، وقد تواترت التقارير الإعلامية التي تشير إلى أن بيروت ودمشق وطهران قد تحولت إلى مراكز لتجميع نشطاء الحراك الجنوبي وتدريبهم.
ومع وصول الرئيس هادي إلى السلطة في 2012، وسَّعت إيران من أنشطتها في المحافظات الجنوبية، بالتوازي مع دعمها ورعايتها للتمدد العسكري والسياسي للحوثيين، فقد تزايد دعمها المالي والسياسي لفصائل الحراك المسلح، وتولت دعم القنوات الفضائية الناطقة باسم الحراك، التي ترسل بثها من بيروت، وسهلت انتقال مئات الناشطين من الحراك الجنوبي؛ من أبناء ردفان والضالع ولحج وعدن، إلى إيران ولبنان وسوريا، لتلقي تدريبات مكثفة في مجال العمل العسكري والأمني والإعلامي، على أيدي خبراء من إيران وحزب الله اللبناني.
وقد حذر الرئيس هادي من تزايد التدخلات الإيرانية في اليمن عموماً، والجنوب خصوصاً، وأكد أنها تقدم “الدعم السياسي والعسكري والإعلامي والمالي لقوى الحراك المسلح، في جنوب اليمن”، وتعمل على “استقطاب إعلاميين ومعارضين سياسيين”، وقال- في محاضرة ألقاها في مركز (وودرو ويلسون الدولي للباحثين) بواشنطن، إن إيران تسعى لعرقلة التسوية السياسية التي تمت وفق المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، والتي تعدها “مبادرة سعودية أمريكية”.
هادي والقضية الجنوبية
حظيت القضية الجنوبية باهتمام بارز منذ وصول هادي إلى السلطة، حيث تبنى جملة من السياسات والإجراءات الهادفة إلى معالجة القضية الجنوبية، وبخاصة إعادة التوازن في وجود أبناء تلك المحافظات في المواقع القيادية العسكرية والمدنية للدولة، وقد أفضى مؤتمر الحوار الوطني إلى جملة من التحولات الإيجابية لمصلحة القضية الجنوبية، ونتج عنه حلحلة جزئية في مواقف عدد من مكونات الحراك الجنوبي وقادته، في حين ظلت فصائل الحراك المسلح الموالية لإيران في موقف متسمر ورافض للتعاطي مع أي حلول لا تؤدي إلى تقسيم اليمن إلى دولتين.
الدور الإماراتي في عدن
منذ خروج مسلحي الحوثي وقوات صالح من مدينة عدن، تولت الإمارات الإشراف على المدينة وبعض المناطق الجنوبية، في إطار التنسيق والتكامل بين دول التحالف بقيادة المملكة، غير أنها حرصت على إنفاذ ذلك الإشراف وفق أجندة خاصة بها، تتعارض في كثير من الأحيان مع السياسات والاتجاهات العامة للحكومة الشرعية، وأهداف عاصفة الحزم، المتمثلة في إنهاء الانقلاب واستعادة الدولة.
فمنذ وصولها عدن، اتجهت القوات الإمارتية لاستقطاب السلفيين وإلحاقهم بمعسكرات التدريب، وتشكيل ما سُمي بقوات الحزام الأمني وقوات النخبة الحضرمية، التي تشير بعض التقارير إلى أن قوام أفرادها يقترب من (20000) فرد، وتفيد مصادر مطلعة أن الرئيس حاول أكثر من مرة إقناع الإمارات بأهمية ضم هذه القوات إلى الجيش الوطني، غير أن طلبه جوبه بالرفض، وأُسندت إليها مهمة تأمين مداخل مدينة عدن والمناطق المجاورة لها.
نجحت دولة الإمارات في فرض عيدروس الزبيدي محافظاً لمحافظة عدن، بعد مقتل محافظها السابق جعفر محمد سعد، وتعيين شلال شائع مديراً لأمن عدن، حينها تمكنت الإمارات من إحكام قبضتها على المرافق الأمنية والأجهزة العسكرية الناشئة في المدينة، وفتح معسكرات تدريب بعيداً عن أنظار الشرعية والجيش الوطني، حتى أصبحت تتحكم في دخول الرئيس نفسه إلى عدن وخروجه منها، من خلال تحكمها في أمن المطار.
استشعر هادي الخطر في المناطق التي تسيطر عليها القوات الموالية للإمارات، وبدأ بدعم قوات الحماية الرئاسية، وأمر بسحب اللواء الرابع مدرع حماية رئاسية من جبهة البقع في صعدة إلى مدينة عدن، بهدف تعزيز حضور الدولة فيها، ونشر قوات الحماية الرئاسية في بعض المناطق المهمة، وظلت قوات الحماية الرئاسية تصطدم بالحراك المسلح وقوات الحزام الأمني، وكاد هذا الاصطدام في كثير من المرات أن يقود إلى انفجار الوضع العسكري بين الحماية الرئاسية والحزام الأمني.
وتعقدت الأزمة إلى حد رفض قرارات هادي بتغيير بعض المسؤولين، حتى وإن كان هذا المسؤول لا ينتمي إلى قيادات الصف الأول، حيث رُفِض قرار الرئيس بتغيير ضابط أمن مطار عدن، صالح العميري.
وفي فبراير/شباط الماضي منع أمن المطار هبوط طائرة الرئيس هادي في مطار عدن، بعد عودته من المملكة العربية السعودية، وهو ما اضطره إلى تغيير خط سير الطائرة إلى جزيرة سقطرى، ولم يسمح لها بالهبوط إلا بعد تدخل الرياض، ومع إخفاق زيارة هادي إلى الإمارات في حلحلة الخلاف، اضطرت السعودية إلى طلب بقاء هادي فيها، خوفاً من حدوث صدام عسكري ينسف المكاسب العسكرية والسياسية التي حققتها عاصفة الحزم، ويؤدي إلى إفشال الحرب ضد الحوثيين وأنصار صالح.
وغادر بن دغر، وحكومته أيضاً، عدن إلى الرياض، وأشار كثير من التقارير إلى أن ذلك يعود إلى تعرض الحكومة لمضايقات من قبل الحراك المسلح والسلطة المحلية في عدن بقيادة الزبيدي وشلال، وكانت تقارير إعلامية قد أشارت إلى أن الحراك في طريقه إلى تنفيذ عدد من الإجراءات التي من شأنها جعل الانفصال أمراً واقعاً، غير أن توجيهات رئاسية إلى قيادة المنطقة العسكرية في محافظة حضرموت، وضغوطاً مارستها قيادات بارزة في الشرعية، حالت دون انتقال محافظ حضرموت إلى عدن، وإشهار بيان باسم الجنوب يهيئ للانفصال.
ويظهر من خلال ردة الفعل الإماراتية أن القرارات الرئاسية قد وجهت ضد أهم قطبي الإمارات في عدن؛ الحراكي عيدروس الزبيدي، والسلفي هاني بن بريك، فهل تحتوي المملكة هذا الخلاف من خلال اللجنة الثلاثية برئاسة اليمن وعضوية السعودية والإمارات؟ أم أن الإمارات قد حددت موقفها النهائي من هادي وشرعيته؟
ترتيبات سعودية
مع انشغال السعودية وتركيزها على تضييق الخناق العسكري والاقتصادي على الانقلابيين في المناطق التي يسيطرون عليها، أتاحت هامشاً كبيراً للإمارات في المحافظات الجنوبية التي تم تحريرها، إلا أن محاولة الإمارات فرض رؤيتها الخاصة في المناطق الجنوبية، أدت إلى جملة من التطورات السلبية نتج عنها توترات أمنية، أثرت في عملية عاصفة الحزم برمتها، وهو ما دفع الرياض إلى تكثيف حضورها المباشر لترتيب أوضاع تلك المحافظات.
فقد كثفت من جهودها العسكرية، وتمكنت من إخراج القاعدة من المناطق التي تسيطر عليها في حضرموت وأبين، في حين كان العمل الأبرز هو إعطاءها الضوء الأخضر لترتيبات إعلان إقليم حضرموت في أثناء انعقاد مؤتمر حضرموت الجامع، وهو ما مثل ضربة مؤلمة لمشروع الانفصال، فمن دون محافظتي حضرموت وشبوة الغنيتين بالنفط والغاز تصبح دعاوى إقامة دولة الجنوب التي يتبناها الحراك المسلح ضعيفة الجدوى، وتحظى المملكة بنفوذ واسع لدى أطراف جنوبية، من ضمنها فصائل الحراك نفسها، وهو ما قد يضطر الإمارات إلى الكشف عن أوراق جديدة أكثر فاعلية، للضغط لتنفيذ أجندتها؛ وتتمثل تلك الأوراق في نجل الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح وأدواته في الداخل (ما تبقى لديه من ترسانة الحرس الجمهوري والأمن القومي ومراكز الدولة العميقة…)، وهذا قد يضعف الدور السعودي، وبالضرورة يصب في مصلحة النفوذ الإيراني.
سيناريوهات المستقبل في عدن
تظل التطورات في مدينة عدن مفتوحة على عدد كبير من المسارات المستقبلية؛ بسبب تعدد الأطراف المؤثرة فيها، وتعارض كثير من أجندتها، غير أنه يُمكن حصرها في ثلاثة سيناريوهات؛ يتعامل الأول منها مع سقف مرتفع من التطورات لمصلحة المجلس الانتقالي الجنوبي على حساب سلطة الرئيس هادي وعمليات عاصفة الحزم، ويتناول الثاني إمكانية إجهاض المجلس الانتقالي الجنوبي من قبل الحكومة اليمنية والمملكة العربية السعودية، أما السيناريو الثالث فيبحث احتمالية الجمع بين المجلس الانتقالي وصلاحيات الرئيس والحكومة، وهذا يلغي فكرة الأقاليم الستة المتفق عليها في مخرجات الحوار الوطني وتمهد للانفصال مستقبلاً.
ويبقى المحدد العام لكل السيناريوهات التالية هو حجم التباين أو الاختلاف في الرؤى والتصورات السعودية الإماراتية في اليمن.
سيناريو نجاح المجلس الانتقالي
يتوقع هذا السيناريو مضي الأطراف التي تتبنى مشروع الانفصال، والقوى الإقليمية التي تقف خلفها، قدماً في فرض مشروع الانفصال، بما قد يؤدي إلى الصدام مع الشرعية أو إنهائها مشروعاً ووجوداً في المحافظات الجنوبية، كما هو حاصل في صنعاء، وهذا قد يؤدي إلى نشوب صراع بين قوات الجيش الوطني التابع للحكومة من جهة، والقوات المدعومة إماراتياً من جهة أخرى، ويستند هذا السيناريو إلى حجم وحالة المغامرة السياسية والخطاب الشعبوي المتصاعد الذي يتبناه تيار الانفصال، وما يمكن أن يتولد عنه من استنفار شعبي، وحرص القوى السياسية المتربصة في صنعاء وطهران؛ للدفع بالأوضاع نحو الانفجار بوصفه أنجع الطرق لإفشال أهداف الجهود السعودية في اليمن، بما قد ينعكس على تقوية سلطتهم ونفوذهم في الشمال.
ويحمل هذا السيناريو مخاطر محققة على الجهود السعودية في اليمن، ويصب في مصلحة النفوذ الإيراني، التي قد تتعزز علاقتها مستقبلاً مع مكونات المجلس الانتقالي؛ بحكم علاقتها التاريخية بتيار علي سالم البيض وأنصاره.
سيناريو فشل المجلس الانتقالي
ينطلق هذا السيناريو من اتخاذ الحكومة الشرعية إجراءات عملية بإقالة المسؤولين الذين أيدوا هذا القرار، وإحالتهم للتحقيق، في المقابل قد تتجه الحكومة إلى تشجيع قادة الحراك الموالين للرئيس هادي وشرعية الدولة؛ مثل ناصر النوبة مؤسس الحراك الجنوبي، ومحافظ عدن الجديد عبد العزيز المفلحي، وذلك لسحب البساط الشعبي عن المجلس السياسي الانتقالي، بالتوازي مع تحجيم دور الإمارات من قبل المملكة العربية السعودية.
وينطلق ذلك من أن الإرادة السعودية قد تمثل قيداً على السلوك المتطرف لفصائل الحراك المسلح وقوات الحزام الأمني، وأن الضغوط السعودية من شأنها كبح جماح أي مشروع يؤدي إلى إضعاف السلطة الشرعية التي يستند التدخل العربي في اليمن إلى طلبها كسلطة شرعية أو إلغائها، غير أن الدور السعودي يظل مقيداً بجملة التعقيدات التي تزداد يوماً بعد آخر في اليمن عموماً، وعدن والجنوب خصوصاً، وهذا يعني أنه حتى وإن قُيِّدت المواقف الانفرادية والمتطرفة لقوى الانفصال، أو جرى امتصاصها، فإن حالة الاشتباك والتدافع ستظل قائمة بين الطرفين، وأن مسار التطورات في عدن سيشهد مستوى معيناً من الاضطرابات وحالات من المد والجزر، وقد يؤدي إلى ظهور الخلافات السعودية الإماراتية إلى السطح، خصوصاً إذا ما شعرت المملكة أن النفوذ الإيراني في اليمن لا يهم الإمارات.
ويستند هذا السيناريو إلى استشعار المملكة للمخاطر المترتبة على أمنها القومي، كما أن فاعلية الرئاسة والحكومة اليمنية تمثل دوراً محورياً في تحقيق هذا السيناريو.
وعلى الرغم من أن هذا السيناريو هو المرجح فإنه يظل مرتبطاً بما ذُكر حول قراءة المملكة لعلاقة مكونات المجلس الانتقالي.
سيناريو الاحتواء المؤقت
نظراً لتقاسم النفوذ، سواء بين الحكومة اليمنية وبين أتباع المجلس الانتقالي في الجنوب، أو بين السعودية والإمارات، بصرف النظر عن فارق التمثيل والتأثير، فضلاً عن حرص الإمارات والسعودية على عدم الاشتباك، والحفاظ على مستوى معين من التوافق في الملف اليمني، فقد يدفع ذلك إلى إنتاج صيغة جديدة تضمن للجميع حداً مقبولاً من النفوذ، وذلك للحفاظ على سير المعارك ضد جماعة الحوثي وصالح، خصوصاً معركة الحديدة، التي تهددها خلافات الجنوب، وهذا يمثل للمملكة تحدياً وأولوية ملحة.
وقد يتمخض هذا التقارب عن اتفاق يخفض سقف مطالب المجلس السياسي، وفي الوقت ذاته يضمن له سقفاً محدداً من مطالبه، وقد نشهد في الأيام القادم أن تقود السعودية الوساطة، أو تشكيل لجنة حوار بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي، وهذا السيناريو- على سهولته- سيحمل خلافات للمستقبل القريب، ويضخم من حجم تيار الانفصال على حساب الحراك الجنوبي الموالي لشرعية الرئيس هادي وفكرة اليمن الاتحادي.