للعام الثالث على التوالي والعاصمة اليمنية المؤقتة (عدن) تشهد مواجهات عسكرية واحتقاناً سياسياً كان آخرها المواجهات التي اندلعت في 28 يناير/كانون الثاني بين قوات الحماية الرئاسية التابعة للرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، وكتائب الحزام الأمني المحسوبة على المجلس الانتقالي المتمسك بخيار الابتعاد عن إرادة السلطة الشرعية، وعلى الفور بادرت الحكومة الشرعية إلى إدانة ما أسمته انقلاباً على الشرعية، جاء ذلك على لسان رئيس الحكومة أحمد بن دغر، الذي حمل المجلس الانتقالي المسؤولية الكاملة عما جرى من اشتباكات، كما طالب أطراف التحالف العربي بإنقاذ الموقف، ومنع محاولات الخروج على السلطة.
هذه الاشتباكات جاءت بعد أن حمل المجلس الانتقالي الجنوبي حكومة بن دغر المسؤولية عن تردي الأوضاع في المناطق الجنوبية، متهماً إياها بالفساد، وهو ما اضطر الحكومة إلى الإعلان عن منع أي تجمعات أو مسيرات في عدن، حيث أوضحت وزارة الداخلية اليمنية أنها ستمارس، من خلال أجهزتها المختصة والمعنية، وبالتنسيق مع قوات التحالف، بواجبها ودورها في حفظ الأمن والممتلكات العامة والخاصة.
توقفت الاشتباكات في الأول من فبراير/شباط بعد توقيع طرفي النزاع اتفاقية وقف إطلاق النار، على إثر تدخل قوات التحالف العربي، واستعادة بعض المقار الحكومية التي استولت عليها قوات الحزام الأمني خلال الاشتباكات، وقد وصف السفير السعودي في اليمن، محمد آل جابر، في حسابه على موقع تويتر، تدخل قوات التحالف بـ”تحالف الإخوة يعيد الهدوء والأمن في عدن”.
هذا الاهتزاز الأمني الذي خلفه تدخل المجلس الانتقالي في الجنوب، مدعوماً بقوات الحزام الأمني، ربما يجرف بحالة الهدوء النسبي بين الحكومة اليمنية والمطالبين بانفصال الجنوب، في الوقت الذي يعلن فيه التحالف تمسكه القاطع بوحدة اليمن وضمان استقرار المناطق المحررة.
فإلى أي مدى يمكن أن يؤثر الموقف السعودي في مستقبل الأحداث بعدن؟ وما السياقات المحتملة للدور السعودي في حلحلة الأوضاع في عدن؟
مطالب الانفصال مدعومة بقوة السلاح
كانت عدن أولى النقاط التي انطلقت منها الحكومة الشرعية في حربها الجارية ضد جماعة الحوثي والراحل علي عبد الله صالح، بالإضافة إلى كونها عاصمة الحكومة اليمنية وأرضية يتخذها التحالف- ومعه الحكومة- مركزاً للإسناد السياسي والعسكري في مواجهة انقلاب الحوثيين.
هذه المكانة التي أحاطت بعدن ربما لم تسعد المطالبين بالانفصال، إذ يحاول المجلس الانتقالي في الجنوب، الذي أُسس في مايو/أيار 2017، إعادة الاعتبار لمطالب الجنوبيين، وخلق نوع من التوازن السياسي السابق لأوانه، في مسعى لهضم كل أشكال التهميش الذي يراه أعضاء المجلس الانتقالي ضد الجنوبيين، وقد نشأ المجلس، الذي يتزعمه عيدروس الزبيدي محافظ عدن السابق، بوصفه أحد مخرجات ما سمي بـ(إعلان عدن التاريخي)، حيث تضمن الإعلان تخويل قيادة تتولى تمثيل الجنوب، مع الإشارة إلى الحراك الجنوبي والمقاومة الجنوبية بصفتها أطرافاً مشاركة في الحرب ضد الحوثي. كما أوضح الإعلان أن الجنوب لن يكون بعد 4 مايو/أيار 2017 كجنوب ما قبل هذا التاريخ.
المشهد في الجنوب اليمني، وفي عدن بالذات، أكد صعوبة ضبط الانفلات الأمني الذي تسبب به المجلس الانتقالي المدعوم بقوات الحزام الأمني التي شكلتها دولة الإمارات ومواجهة حكومة بن دغر عسكرياً. هذه العلاقة بين المجلس وقوات الحزام الأمني تسببت في عدد من الانتهاكات الأمنية المتعاقبة، كانت الحكومة هدفاً لها، ففي أكتوبر/تشرين الأول 2017 اشتبكت قوات الحزام الأمني مع قوات من الجيش كانت تؤدي عرضاً عسكرياً حضره رئيس الحكومة بن دغر، وفي نوفمبر/تشرين الثاني، أي بعد شهر، شنت هذه القوات هجوماً على حراسات ميناء الزيت بعدن، وفي ذات الشهر ألغي العرض العسكري الذي كان سيحضره رئيس الحكومة بعد قطع الحزام الأمني الطريق على موكبه.
لعل تكرار هذه الاعتراضات الخشنة أمام الحكومة الشرعية من قبل المجلس الانتقالي وقوات الحزام الأمني يحرف بوصلة المطالب الجنوبية، التي بدأها (إعلان عدن التاريخي)، عن مشروعية الدفاع عن مصالح الجنوب، والإشارة إلى دور جنوبي في مستقبل اليمن.
إن إحداث انفلات أمني في عدن قد يكون الهدف منه فك الارتباط بين التواجد المحوري للسلطة الشرعية وبين أهم المواقع الجغرافية في الجنوب؛ ألا وهو عدن، وحالة الارتباط هذه لا تخدم مطالب الانفصال في حال استمرت عدن عاصمة للحكومة وقدمت الكثير من الخدمات للبنى التحتية للمدينة.
السعودية واليمن الموحد
منذ انطلاق الحرب على جماعة الحوثي وانقلابها على الحكومة الشرعية، والمملكة العربية السعودية تتبنى خطاً واحداً، وتمسك بذات العصا التي تقوم عليها السلطة الشرعية، وهي المساعي الحثيثة لتخليص اليمن من الانقلابيين. أحداث عدن الأخيرة حملت نفَساً انقلابياً آخر، جاء ذلك في خلال تعليق رئيس الحكومة اليمنية، إلا أن وسائل إعلام سعودية وصفت هذه الأحداث بالتمرد، فضلاً عن تعليق سفير المملكة في اليمن، محمد آل جابر، الذي أرجع عودة الهدوء في عدن إلى “تحالف الأخوة”، فابتعاد ردة الفعل السعودية عن تبني موقف حكومة بن دغر ألمح إلى رغبة المملكة في إسكان حدة الأحداث، حيث لم تحمل المملكة طرفاً بعينه نتيجة ما جرى من مواجهات، إلا أن الاشتباكات الأخيرة التي أفضت إلى اقتحام لمقار حكومية، وهو ما لم تقبله الحكومة اليمنية، أبقت الموقف السعودي متراجعاً خطوة، مفضلة عدم الانجرار إلى مواجهة مع قوات الحزام الأمني التي شكلتها وتدعمها الإمارات، انعكست هذه التهدئة السعودية على الخطاب الإعلامي الذي سارع إلى إشهار العلاقة المتينة بين السعودية والإمارات في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي.
هذه الرؤية السعودية للإبقاء على وحدة اليمن هي جزء من المعركة الجارية في اليمن التي قاربت على مجاوزة ثلاثة أعوام، ويدرك المسؤولون في السعودية ضرورة إنهاء خطر الميليشيات الحوثية من خلال التوافق اليمني الذي امتد لعقود في ظل دولة واحدة، ويبقى التأكيد على خيار الوحدة في نظر السعوديين أحد أهم متطلبات حسم المعركة ضد الميليشيا الانقلابية.
التداعيات
ثمة مخاطر عديدة تحيط بعمليات قوات الحزام الأمني، أولها: تلك المخاطر المترتبة على استمرار نشاط قوات الحزام الأمني بدعوى المحافظة على أمن مدينة عدن، إذ لا يعلم حتى هذه اللحظة ما حدود ونطاق عمل هذه القوات، وتجري عملياتها بطريقة مفاجئة. وطبقاً لمجموعة من الأحداث فإن هذه القوات تدخلت ضمن نطاق صلاحيات وزارة الداخلية في عدن فيما يتعلق بضبط الأمن وعمل نقاط تفتيش، كما اعترضت هذه القوات على مواكب رسمية، ومن بينها موكب رئيس الوزراء.
ثاني هذه المخاطر هو في احتمالية الإخلال بجسد الشرعية الذي يحاول أن يقاوم في ظل التعثرات المصاحبة لسير أعمال حكومة بن دغر، وعدم قدرة الأجهزة الأمنية الحكومية على بسط سلطتها على الأراضي المحررة كافة، ومن ثم فإن مضي قوات الحزام الأمني المدججة بالأسلحة الحديثة بالتحرك داخل الأراضي اليمنية والاحتكاك بالقوات الحكومية قد يفت في عضد السلطة التي لا تزال تراوح مكانها، ومن ثم فإن أي مواجهة قادمة قد تؤكد رغبة قوات الحزام الأمني، ومعها المجلس الانتقالي في الجنوب، في الخروج من عباءة السلطة الشرعية، وفي هذا إرباك لأهداف التحالف وسلطة عبد ربه منصور هادي.
سياقات الموقف السعودي
فرضت الحرب القائمة في اليمن على أطراف التحالف الوقوف إلى جانب سلطة الرئيس هادي، ما يعني التمسك برئيس اليمن الموحد إلى حين استعادة الدولة اليمنية لسلطتها الكاملة ومعها العاصمة صنعاء، وهذا بمنزلة الخيار الأوحد في حال مضي التحالف العربي في حملته ضد ميليشيات الحوثي، بل إن ضمان تماسك الصف الداخلي اليمني في وجه الانقلابيين هو في تجنيب الساحة اليمنية الاختلاف الميداني وصراع الشرعية، وتدرك الحكومة السعودية ما سيترتب على تنازع المشاريع الداخلية، وأولها مشروع المطالبة بالانفصال.
قد يكون من المستبعد أن تقبل المملكة بسيطرة أخرى لقوات الحزام الأمني على مقار الحكومة اليمنية ما دامت الحرب قائمة ضد جماعة الحوثي، بيد أن السلوك السعودي الرافض لهذه الممارسات ظلَّ في طور الهدوء المحكوم بعلاقتها مع الإمارات التي تعد الممول الرئيس لهذه القوات وكذلك المجلس الانتقالي.
من المحتمل أن تصعد المملكة من موقفها تجاه أي خطوات تمرد أخرى في حال انهارت أجهزة السلطة أمام هذه القوات، فمن الخطأ أن تقبل المملكة بانقلاب آخر في اليمن في الوقت الذي تعلن فيه حربها على الميليشيات الحوثية الانقلابية، وليس لدى المملكة من خيار سوى ترويض هذه القوات وإقناع الأطراف الجنوبية بالانضواء الكامل تحت لافتة السلطة الشرعية إلى حين القضاء على خطر الميليشيات الحوثية، وهذا يعتمد على مدى التقارب والتباين في الرؤى والأهداف داخل التحالف العربي.
مسارات مستقبلية للمشهد في عدن
وفقاً لهذه المعادلة فإن الأحداث في مدينة عدن ترتبط بدرجة أساسية بالتوافقات أو التناقضات السعودية الإماراتية، ومدى تقارب الرؤى حول إنهاء الصراع، وهي مرشحة للسير بأحد السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول: تغيير الحكومة وتمكين المجلس الانتقالي
بالرغم من مخالفة هذا السيناريو لنفي الوزير السعودي محمد آل جابر، في مقابلة مع قناة البي بي سي، وجودَ نية لتغيير حكومة بن دغر، وعلى الرغم من ضعف تحققه، يقوم على فرضيات تستند إلى تأثير الإمارات في المشهد السياسي والعسكري في جنوب اليمن، ويفترض السيناريو أن تذهب السعودية لتوافقات مع الإمارات والمجلس الانتقالي وتعمل على نقل القوات التابعة للرئيس هادي خارج عدن، على أن يسمح المجلس الانتقالي لحكومة بن دغر بتأدية مهامها حتى الإعلان عن الحكومة الجديدة، أو تغييرات وزارية كأقل تقدير، وتعيين قيادات المجلس الانتقالي، بالإضاقة إلى تعيين قيادة من الحزام الأمني لمعسكرات الحماية الرئاسية بدلاً عن القيادات السابقة لتلك المعسكرات، وفي المقابل تعود قوات الحزام الأمني إلى مواقعها.
وسيناريو مثل هذا لن يتحقق ما لم يكن لدى السعودية قدرة على إنفاذ رؤية تقوم على تمرير مشروع ثلاثة أقاليم (الجنوب، والوسط، والشمال) على أن تبقى مؤقتاً تحت سلطة شرفية للرئيس (هادي)، حتى إجراء حوار بين الأطراف السياسية اليمنية.
السيناريو الثاني: الانتقال إلى دعم مشروع طارق صالح
ويستند هذا السيناريو إلى تجميد التفاعلات الجنوبية مؤقتاً والضغط على الحكومة الشرعية والرئيس هادي بالسماح لطارق صالح ومنحه مشروعية لتكوين تشكيلات عسكرية غير خاضعة للجيش الوطني والحكومة الشرعية، وإذا ما مرر هذا السيناريو فإنه يثبت جدلية أن الأحداث الأخيرة في عدن ليست إلا محاولة لإخضاع الحكومة للقبول به ليكون هو من يدخل صنعاء لا الجيش الوطني الذي يقترب من مطارها الدولي بضعة كيلومترات.
سيناريو: إنهاء الانقسام
ويقوم هذا السيناريو على نجاح السعودية في إعادة الاوضاع العسكرية إلى وضع قريب مما كانت عليه قبل الحرب، والضغط على (المجلس الانتقالي) والإمارات لتركيز الجهود على حرب الحوثيين، وتقوية صفوف الشرعية العسكرية، وإدراج كل التشكيلات العسكرية تحت لواء الشرعية، ومن ضمنها وحدات طارق صالح المزمع تشكيلها في قاعدة العند، وكذلك وحدات الحزام الأمني، وهذا يعتمد على تقييم المملكة لحجم مخاطر إطالة الصراع في اليمن، وتعدد المجموعات العسكرية في صفوف الطرف المفترض أنه مناهض للحوثي، فضلاً عن تدجين المدارس والجامعات والمدارس في شمال اليمن بأفكار إيرانية معادية.