بعد مضي خمسة عشر عاماً على تركه للسلطة عاد رئيس الوزراء الماليزي الأسبق مهاتير محمد إلى رئاسة الوزراء من جديد، عقب الانتخابات التشريعية الماليزية التي تغلب فيها ائتلاف الأمل على تحالف الجبهة الوطنية، وهو المكون السياسي الذي كان ينتمي إليه مهاتير محمد وحليفه الحالي أنور إبراهيم، وقد أعلنت مفوضية الانتخابات أن ائتلاف الأمل حصل على (113) مقعداً من أصل مقاعد البرلمان الـ (222) مقعداً، في حين حصل تحالف الجبهة الوطنية الحاكم على (79) مقعداً، وتوزعت بقية المقاعد على بقية الأحزاب الأخرى.
يعود مهاتير محمد، الرجل التسعيني، إلى رئاسة الوزراء من جديد، يحمل هذه المرة وعداً بتسليم السلطة خلال سنتين لحليفه أنور إبراهيم، عقب الترتيبات القانونية التي تتطلب عودة الرجل إلى البرلمان أولاً بعد استقالة أحد أنصاره وإجراء انتخابات للمقعد الشاغر الذي سيترشح له أنور إبراهيم.
فما أسباب فوز تحالف الأمل حديث التشكل، وخسارة تحالف الجبهة الوطنية بعد 6 عقود من الحكم المستمر؟ وإلى أي مدي سينجح الحليفان؛ مهاتير وأنور إبراهيم، في التوافق والاستمرار في الحكم خلال الفترة المقبلة؟
التركيبة الديمغرافية والسياسية الماليزية
ماليزيا هي دولة فدرالية ملكية دستورية، تقع جنوب شرقي آسيا، وتتكون من ثلاث عشرة ولاية، لكل ولاية سلطانها الخاص بها، وللسلاطين مجلس خاص بهم، يجري من خلاله اختيار سلطان مركزي كل خمس سنوات، بالإضافة إلى ثلاثة أقاليم خارج سيطرة السلاطين، وتتبع الحكومة المركزية رأساً، ومنها العاصمة كوالالمبور.
يبلغ عدد سكان ماليزيا ثلاثين مليون نسمة تقريباً، يتوزعون بين ثلاثة أعراق رئيسية؛ وهم: الملاويون وهم السكان الأصليون لماليزيا، ويشكلون نسبة 65% تقريباً، يليهم الصينيون والهنود، وهم الذين قدموا إلى ماليزيا إبان الاستعمار البريطاني بطلب منه للعمل داخل ماليزيا، ويشكل الصينيون نسبة 26% تقريباً، في حين يشكل الهنود نسبة 8% تقريباً، وهناك عرقيات أخرى صغيرة.
وفي ماليزيا أكثر من عشرين ديانة، أشهرها خمس ديانات رئيسية، ويشكل المسلمون نسبة 61.3%، يليهم البوذيون 19.8%، ثم الهندوس 6.3%، ثم الكونفوشيوسية والطاوية، وينخرط هؤلاء جميعاً في عدد من الأحزاب والمكونات السياسية التي تشكلت في تحالفات سياسية كبرى أهمها:
– تحالف الجبهة الوطنية
يضم تحالف الجبهة الوطنية 14 حزباً سياسياً أبرزها: حزب المنظمة الوطنية الملاوية المتحدة (UMNO) الذي شُكل عقب الاستقلال، وينخرط فيه عدد من القوميات الملاوية والصينية والهندية، لكن الغالبية فيه للملاوية، ويعد الحزب الحاكم منذ الاستقلال 1957، وإليه ينتمي كل رؤساء الوزراء الذي تعاقبوا على حكم ماليزيا، ومن بينهم مهاتير محمد، الذي استقال منه عام 2006، بعد مغادرته السلطة بثلاث سنوات، بالإضافة إلى الجمعية الصينية الماليزية، وحزب المؤتمر الهندي الماليزي، والحزب الإسلامي (PAS) الذي خرج من التحالف لاحقاً ودخل الانتخابات منفرداً.
– ائتلاف الأمل
وهو الائتلاف الذي فاز بالسلطة مؤخراً، ويتكون من أربعة أحزاب رئيسة، على رأسها حزب عدالة شعب، ذو الميول الإسلامي، الذي يرأسه أنور إبراهيم، ثم حزب العمل الديمقراطي، الذي يهيمن عليه الصينيون، وحزب الأمانة الوطنية المنشق عن الحزب الإسلامي، وهو حزب منفتح سياسياً أكثر من الحزب الإسلامي، وحزب وحدة أبناء الأرض الذي أسسه مهاتير محمد بعد انشقاقه من المنظمة الوطنية.
قطبا النهضة الماليزية مهاتير وأنور إبراهيم
توالى على رئاسة وزراء ماليزيا من بعد الاستقلال عام 1957 إلى ما قبل فوز تحالف الأمل ستة رؤساء، يعد مهاتير محمد رابعهم، وقد أطلق عليه لقب (أبو التحديث)، ويعد نائبه حينها أنور إبراهيم من أشهر القيادات السياسية في ماليزيا، وكان للاثنين النصيب الأكبر في نهضة ماليزيا وتقدمها.
– مهاتير محمد
قبل صعود مهاتير محمد، الحكم (1981حتى 2003) تولى وزارة التعليم ثم وزارة الصناعة والتجارة، ونيابة رئاسة الوزراء، ويعد مهاتير محمد، الطبيبُ السياسيُّ، رئيسَ الوزراء الوحيد الذي جاء إلى المجلس من طبقة متوسطة، وقد حكم ماليزيا اثنين وعشرين عاماً، وخلال هذه المدة ركز على عدد من المشاريع التنموية والخطط الاستراتيجية التي أسهمت في النهضة الماليزية، وانتقل بماليزيا من دولة تعتمد على الزراعة وإنتاج المطاط والقصدير والموز، إلى دولة صناعية انخفض فيها معدل الفقر من 52% إلى 5% عام 2003، أما دخل الفرد السنوي فارتفع من 1200 دولار إلى 10000 دولار، وزاد عدد الجامعات من 5 إلى أكثر من 400 جامعة ومعهد علمي، حكومي وخاص، ومن أشهر الاستراتيجيات التي اعتمد عليها الرجل استراتيجية 20-20 التي تسير على ضوئها ماليزيا إلى الآن، باستثناء بعض الاختلالات التي حصلت مؤخراً، والتي عاد مهاتير محمد إلى السلطة لإصلاحها.
– أنور إبراهيم
ولد أنور إبراهيم في 10 أغسطس/آب 1947 بمقاطعة بنين الماليزية، ودرس علم الاجتماع في الجامعة الملاوية، وفي أثناء دراسته نشط سياسياً واجتماعياً وثقافياً، حتى أصبح ممثلاً للشباب الماليزي في الأمم المتحدة، ثم اختير بعدها عضواً لشبكة المستشارين الشباب للأمين العام للأمم المتحدة عام 1973، وتولى بعد ذلك وزارة الشباب والرياضة ثم وزارة التعليم ثم وزارة المالية، ثم تولى نيابة رئيس الوزراء من 1993 إلى 1998، ثم عزل بسبب خلاف نشب بينه وبين مهاتير محمد على طريقة إدارة البلاد خلال الأزمة المالية التي ضربت دول شرق آسيا عام 1997، وسجن على إثرها بتهم الفساد والشذوذ، حيث قضى ست سنوات في السجن إلى أن برأته المحكمة في سبتمبر/أيلول 2004، ليعود بعدها إلى العمل السياسي وبقوة بعد انتهاء فترة الحظر، لكن التهمة عادت مرة أخرى في فبراير/شباط 2015، وأيدت المحكمة العليا الحكم بسجنه خمس سنوات، ورفضت طعناً ضد إدانته من قبل محكمة أخرى، إلى أن أفرج عنه في 16 مايو/أيار 2018، عقب الانتخابات الماليزية.
ويعد أنور إبراهيم صاحب خبرة سياسية عريقة، وشخصية كاريزمية جامعة، وهو الرجل الأول في شرق آسيا حسب تصنيف مجلة (نيوزيوك)، فهو إذاً رقم صعب داخل المعادلة السياسية، وصاحب شعبية كبيرة في أوساط العرقيات المتعددة.
الأسباب الرئيسية لفوز ائتلاف الأمل
في العاشر من مايو/أيار 2018 عاد مهاتير محمد إلى السلطة التي غادرها طواعية عام 2003، محمولاً هذه المرة على أكتاف المعارضة الذين شكل معهم ائتلاف الأمل المكون من أربعة أحزاب رئيسية، ليسقط تحالف الجبهة الوطنية الذي خسر حاضنته الشعبية (الملاويين)، ومما لا شك فيه أن هناك أسباباً رئيسية لهذا الفوز، منها ما يتعلق بترتيب المعارضة نفسها لمواجهة تحالف الجبهة الوطنية، ومنها ما يتعلق بأخطاء ارتكبتها الجبهة الوطنية بزعامة رئيس الوزراء السابق نجيب عبد الرزاق، ومن أبرز تلك الأسباب:
1. السمعة السابقة عند الماليزيين لقيادة تحالف الأمل، والنجاح السابق لأفراده قبل تشكيل التحالف، وعلى رأسهم مهاتير محمد رئيس الوزراء الأسبق، وأنور إبراهيم نائب رئيس الوزراء الأسبق، والسيدة وان عزيزة وان إسماعيل زوجة أنور إبراهيم المرأة الحديدية والمناضلة السياسية التي خلفت زوجها في العمل السياسي؛ فبوجود هذه الشخصيات السياسية الثقيلة اكتسب ائتلاف الأمل حاضنة شعبية استطاعت أن تسقط الجبهة الوطنية الحاكمة.
2. انحراف نجيب عبد الرزاق وحكومته عن استراتيجية 20-20 التي رسمها مهاتير محمد لماليزيا، وتورطهم في قضايا فساد لا تزال رهن التحقيق، وتورطهم كذلك في قروض أجنبية وصفقات فساد طفت على السطح وأثرت في الوضع الاقتصادي للماليزيين.
كل هذا سحب البساط من الجبهة الوطنية لمصلحة ائتلاف الأمل.
التحديات أمام الحكومة الجديدة
لا شك أن التركة التي خلفتها الحكومة السابقة ثقيلة، وهذا يتطلب من الحكومة الجديدة جهداً مضاعفاً لإصلاح الاختلالات التي وقعت فيها الحكومة السابقة، وتجاوز التحديات الكبيرة، سواء تلك التي تتعلق بالملفات الداخلية أو الأخرى ذات الارتباط الخارجي.
– التحديات الداخلية:
1. التحديات الاقتصادية: وتكمن في تسوية الأوضاع المعيشية للمواطنين، والحد من الضرائب في السلع والخدمات، وفتح ملفات الفساد الداخلية والخارجية، والتحقيق في شبه الفساد المالي التي طفت على السطح في عهد الحكومة السابقة، ومنها القضايا المالية المتعلقة بصندوق التنمية الماليزي، ومرور بعض من أموال الصندوق إلى الحساب الشخصي لرئيس الوزراء السابق، كذلك ما يتعلق بالقروض الأجنبية التي اقترضتها الحكومة السابقة وأخفقت في تسييرها على الوجه المطلوب، وغيرها من الملفات التي تتطلب تحقيقاً جاداً من الحكومة الحالية.
2. تحدي الأقليات، وخصوصاً الأقليتين المسيحية والصينية؛ حيث يشكل المسيحيون نسبة كبيرة في ولاية كوتشينغ، عاصمة ولاية ساراواك، التي يبلغ سكانها مليوناً ونصف المليون نسمة تقريباً، أغلبهم مسيحيون، وتتمتع بثروات طبيعية كبيرة في حين أن نصيبها في التنمية قليل، وهذا ولَّد حالة من السخط والرغبة عند البعض في الانفصال، ومن التحديات أيضاً تحدي الأقلية الصينية الماليزية التي حصدت أكثر من أربعين مقعداً في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ولها حضور اقتصادي واسع، وحضور سياسي في التحالفين الرئيسيين.
3. تحدي حرية التعبير التي تعرضت لنوع من التضييق، حيث عمدت الحكومة السابقة إلى سن القوانين التي تحد من حرية التعبير واستجواب الصحفيين والسياسيين والتحقيق معهم، وكان مهاتير محمد نفسه أحد ضحايا هذه القوانين، وخصوصاً قانون مكافحة الأخبار المزيفة، الذي استخدم أداةً لقمع أصحاب الأصوات الحرة، واستُجوِب على إثره مهاتير محمد؛ إذ اتُّهم بنشر أخبار كاذبة حول تعمد منعه من الترشح للانتخابات، والعجيب في الأمر أن مهاتير محمد لا يزال مصراً على بقاء هذا القانون، حيث قال إنه يحتاج فقط إلى “تعريف سليم لما يندرج تحت توصيف الأخبار الزائفة حتى يعرف العامة ووسائل الإعلام بوضوح ما هو مزيف”.
– التحديات الخارجية:
يعد مهاتير محمد من القيادات البارزة التي أدارت ظهرها للغرب منذ وقت مبكر وتوجه صوب الشرق، ورفض الاقتراض من الصندوق الدولي؛ لأنه يرى في ذلك ارتهاناً لسياسته، وتقيداً بشروطه، يضاف إلى ذلك انتقاده اللاذع للغرب، مع مواقفه القوية من القضايا العادلة في العالم، وأولها قضية الشعب الفلسطيني، وربما علاقة أنور إبراهيم بالغرب أقل تشنجاً من علاقة مهاتير.
كما أن هناك قروضاً وهبات من حكومات متعددة وشركات مختلفة، أشهرها شركة الاستثمارات البترولية الدولية (آيبيك) الإماراتية للاستثمارات النفطية، وهذا يتطلب من الحكومة الجديدة تحديد آليات وطنية واضحة لقبول مثل هذه الأمور أو رفضها وكيفية تسييرها.
السيناريوهات المتوقعة لانتقال السلطة
هناك عدد من السيناريوهات المتوقعة للمرحلة القادمة، وخصوصاً ما يتعلق بنقل السلطة التي وعد مهاتير محمد بتسليمها لحليفه الرئيسي في الانتخابات، أنور إبراهيم، في مدة أقصاها سنتان.
السيناريو الأول: تسليم السلطة لأنور إبراهيم
توحي أغلب المؤشرات بأن رئاسة الوزراء ستنتقل خلال السنتين القادمتين، وربما أقل من هذه المدة، إلى أنور إبراهيم، حسب الترتيبات والإجراءات السياسية والقانونية المعمول بها، والتي تتطلب أولاً عودته إلى البرلمان بعد استقالة أحد الأعضاء وإجراء انتخابات للمقعد الشاغر تضمن فوز أنور إبراهيم به، وهذا هو السيناريو الراجح نتيجة للعوامل التالية:
1. قرار العفو الذي صدر بحق أنور إبراهيم وخروجه من السجن.
2. شعبية الرجل الواسعة في الميدان، التي كان لها دور كبير في عودة مهاتير محمد إلى السلطة، حيث حصل حزبه على (48) مقعداً، في حين حصل حزب مهاتير محمد على (12) مقعداً فقط.
3. مظلومية الرجل وبراءته من كل التهم الموجهة إليه، التي يراها أنصاره تهماً كيدية وأبطلتها المحكمة مؤخراً.
4. تعيين زوجته نائبة لرئيس الوزراء.
5. رغبة مهاتير في التخلي عن السلطة التي تركها منذ مدة وعاد إليها اضطراراً، حسب وصفه، وثقته بأن خير خلف له هو أنور إبراهيم.
السيناريو الثاني: استمرار مهاتير محمد
هناك سيناريو آخر أقل احتمالاً، يشير إلى استمرار السلطة بيد مهاتير محمد، وعدم نقلها لأنور إبراهيم خلال المدة المحددة، وعودة مهاتير مرة أخرى إلى حزب (UMNO)؛ لأنه بيته الأول، وهو أكبر وأقدم حزب ماليزي، وفيه يقع التكتل الكبير للملاوية، يسبق هذا إقصاء ومحاكمة رئيس الوزراء السابق نجيب عبد الرزاق لأنه العائق الوحيد أمامه، ومما يؤيد هذا السيناريو:
1. رغبة مهاتير في تسويق النهضة الماليزية باسمه فقط، وإقصاء أي حليف يلمع نجمه في سماء السياسة الماليزية، وهذا ما يفسر التهم التي تعرض لها أنور إبراهيم.
2. معارضة أنور إبراهيم المبكرة لقانون (التمييز الإيجابي) الذي تبناه مهاتير محمد، والذي يقضي بتخصيص نسبة من الميزانية لمصلحة الملاويين في الاقتصاد والتعليم؛ لأنهم أصحاب البلد الأصليون، في حين ينادي أنور إبراهيم بسن قانون يضمن مساعدة الفقراء بغض النظر عن عرقهم، وهذا بطبيعة الحال قد يدفع الملاويين للدفع نحو إعاقة انتقال السلطة.