أطلقت تركيا سراح القس الأمريكي (أندرو برانسون) بعد أكثر من عامين على احتجازه، جاء ذلك بعد أن أصدرت محكمة (علي آغا) في منطقة إزمير التركية، يوم الجمعة 12 أكتوبر/تشرين الأول 2018، حكماً يقضي بسجنه ثلاثة أعوام وشهراً وخمسة عشر يوماً، مقررة الإفراج عنه؛ لانقضاء مدة محكوميته ولسلوكه خلال المحاكمة، كما تفيد المحكمة.
وكانت السلطات التركية قد اعتقلت القس برانسون على خلفية اتهامات وجهت له تتعلق بقضايا تجسس لمصلحة منظمتي فتح الله غولن وحزب العمال الكردستاني، اللتين تصنفهما تركيا على قوائم الإرهاب.
الجدير بالذكر أن العلاقة بين واشنطن وأنقرة شهدت حالة من التأزم في الفترة الماضية لعدد من الأسباب، منها اعتقال القس برانسون، وألقت بآثارها على عدد من الملفات، من أهمها الملف الاقتصادي، فما أسباب اعتقال القس؟ وما تداعيات ذلك؟ وهل سيترتب على عملية إطلاقه تحسنٌ في العلاقة بين البلدين على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري؟
أسباب اعتقال القس
ولد القس الأمريكي أندرو برانسون عام 1968، ويبلغ من العمر خمسين عاماً، وقد نشأ في ولاية كارولينا الأمريكية في عائلة متدينة، وتوجه إلى تركيا واستقر فيها مع عائلته منذ ثلاث وعشرين سنة، وكان يتأهب لطلب الإقامة الدائمة في تركيا قبل اعتقاله.
يرعى برانسون كنيسة إنجيلية صغيرة هناك يبلغ أتباعها 25 شخصاً في مدينة إزمير التركية.
ألقت السلطات التركية القبض على برانسون قبل سنتين، بحجة علاقته بحزب العمال الكردستاني وجماعة (غولن)، في حين ينفي برونسون والولايات المتحدة الأمريكية التهم نفياً قاطعاً.
محكمة العقوبات المشددة بإزمير، في جلستها الثالثة في 18يوليو/تموز الماضي، وفي إطار المحاكمة، قضت باستمرار حبس برانسون، وحددت جلسة 12 أكتوبر/تشرين الأول لاستكمال المحاكمة، في حين اعترض محاميه على القرار بحجة تردي حالة برانسون الصحية. وبَعد النظر في الاعتراض المقدم من هيئة الدفاع قررت المحكمة إخلاء سبيل برانسون ووضعه تحت الإقامة الجبرية منذ ذلك الحين.
تداعيات اعتقال القس وأثرها في توتر العلاقة بين البلدين
تصاعدت حدة التوتر بين واشنطن وأنقرة بعد بدء السلطات التركية محاكمة برانسون بتهمة الإرهاب، حيث قال الرئيس الأمريكي ترامب، في تغريدة له على تويتر: “ستفرض الولايات المتحدة عقوبات كبيرة على تركيا بسبب احتجازها للقس برانسون مدة طويلة، وهو مسيحي عظيم ورب أسرة وإنسان رائع”. وفي وقت سابق لوَّح نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس بتهديد مماثل ووجَّهه مباشرة إلى الرئيس التركي، وقال (بنس)، وهو السياسي الأمريكي المعروف بتوجهاته الدينية المتطرفة، في مقابلة تلفزيونية: “إذا لم تطلق تركيا سراح القس وترسله إلى بلاده فستفرض الولايات المتحدة عقوبات كبيرة عليها إلى أن يتحقق ذلك”، في حين سعت الكنيسة الإنجيلية واليمين المسيحي إلى حشد الجهود لنصرة برانسون والضغط على أنقرة لإطلاق سراحه واعتباره مضطهداً دينياً، وقد حشد المركز الأمريكي للقانون والعدالة، وهو منظمة مسيحية محافظة، (600) ألف توقيع دعماً لبرانسون.
وفي الأول من أغسطس/آب 2018 أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية بياناً أعلنت فيه فرض عقوباتها على وزيري العدل والداخلية التركيين؛ لدورهما في اعتقال برانسون واحتجازه، وقالت الخزانة الأمريكية في بيانها: “هذان المسؤولان يقودان منظمات تابعة للحكومة التركية، وهي مسؤولة عن انتهاكات تركيا الصريحة لحقوق الإنسان”. ويشمل القانون الذي جُهِّز بموجب قانون (ماجنيتسكي) لعام 2016 مصادرة أصول المستهدفين داخل الولايات المتحدة، وحظر دخولهم البلاد، ومنعهم من الانخراط في أعمال تجارية مع كيانات أو شركات أمريكية، وهو ما واجهته تركيا بالمثل، وأصدرت قراراً مشابهاً بخصوص وزيري العدل والداخلية الأمريكيين.
كذلك فرضت واشنطن رسوماً إضافية بنسبة 25% على واردات الحديد الصلب و10% على الألومنيوم، واستثنت من ذلك دولاً مثل كوريا الجنوبية والبرازيل والمكسيك وكندا.
وقد أثرت تداعيات هذه الأزمة على الليرة التركية، وأدى ذلك إلى انخفاضها إلى مستويات غير مسبوقة، حيث فقدت منذ بداية العام 40% من قيمتها.
وفي المقابل رفضت تركيا التهديدات الأمريكية، وبينما رأت أن قضية القس الأمريكي قضائية، أصرت أمريكا على أن القضية سياسية وطالبت الحكومة التركية مراراً التدخل لإطلاق سراح القس.
الملفات الأكثر أهمية ومستقبلها بعد إطلاق القس
لم تكن قضية القس هي الأولى التي أدت إلى تأزم العلاقة بين واشنطن وأنقرة، بل هناك الكثير من القضايا التي أثرت سلباً في العلاقة بينهما، سواء ما يتعلق بغولن أو الدعم الأمريكي للفصائل الكردية في سوريا، أو ما يتعلق بالتقارب التركي الروسي، أو رفض تركيا الالتزام بالعقوبات على إيران، أو تلك القضايا المتعلقة بالشأن الفلسطيني والسوري. ولهذا يأمل بعض المراقبين أن يهيئ إطلاق القس الأجواء المتوترة ويعيد التفاهمات بين واشنطن وأنقرة في عدد من الملفات، لكنه ربما لن يشمل كل الملفات المفتوحة.
– الملف السياسي:
يرى البعض أن الإفراج عن القس جاء بعد تفاهمات جديدة بين واشنطن وأنقرة متعلقة بعدد من القضايا، وأن ذلك جاء على إثر اللقاء الذي جمع أردوغان وترامب على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، في شهر سبتمبر/أيلول 2018، وقد حمل في مضمونه بوادر صفقة سياسية بين الطرفين، في حين تصر الإدارة التركية على أن المسألة قضائية ولا علاقة لها بالموضوع؛ لكون القضاء مستقلاً، لكن تغيير مكان عمل المدعي العام المسؤول عن قضية القس، وتبديل بعض شهود القضية إفاداتهم في الجلسة الرابعة والأخيرة للمحاكمة، ربما يعزز أن هناك تفاهمات مشتركة ورغبة في التقارب، ولعل هذا يلقي بظلاله على الملف السياسي أكثر، ويشهد تحسناً ملحوظاً خلال المرحلة القادمة، وخاصة ما يتعلق بالعقوبات على وزيري العدل والداخلية التركيين، ولهذا أتت تصريحات الرئيسين الأمريكي والتركي في نفس السياق، إذ قال الرئيس الأمريكي ترامب: “إن إطلاق سراح برانسون خطوة مهمة لإعادة العلاقات مع تركيا إلى سابق عهدها”، في حين قال الرئيس التركي أردوغان: “آمل أن تواصل تركيا والولايات المتحدة التعاون بشكل يليق بحليفين”.
وفي المقابل يسعى ترامب للاستفادة من إطلاق القس في تقوية شعبية حزبه في الانتخابات النصفية، في حين افتقدت تركيا ورقة من أهم الأوراق، ولهذا ستظل بعض القضايا مفتوحة، ولعل منها قضية فتح الله غولن، وما يتعلق بالقضايا الفلسطينية والسورية.
وفيما يخص التقارب التركي مع روسيا، ومع إيران إلى حد ما، فإن تركيا ربما ترى ذلك نتيجة لتجاهل أصدقائها الغربيين لمصالحها وأمنها القومي، وتحسن العلاقة بأمريكا إن تم فلن يكون على حساب العلاقة بروسيا، وستظل تركيا تحتفظ بتوازن العلاقة بين البلدين.
– الملف الاقتصادي:
حققت الليرة التركية ارتفاعاً ملحوظاً عقب إطلاق القضاء التركي سراح القس، حيث تراجع الدولار من 5.97 إلى 5.83، وما تزال تشهد تحسناً مترنحاً بعد هذا التاريخ، في حين يُتوقع أن تخفض الإدارة الأمريكية العقوبات الاقتصادية التي فرضتها على تركيا.
وفيما يخص رفع العقوبات الأمريكية قال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، في زيارته الأخيرة لتركيا عقب إطلاق القس: “سوف نتوصل إلى قرار قريباً، الآن هناك مبرر لرفعها، لكن لم يتم التوصل إلى القرار النهائي بعد، وسأتباحث مع الرئيس دونالد ترامب في هذا الخصوص”.
على صعيد آخر تتهم واشنطن بنك هالك التركي بالتورط في تمويل المصالح الإيرانية، وأن البنك بوابة خلفية لإيران تستخدمها للتهرب من العقوبات الأمريكية، وكانت محكمة أمريكية أصدرت في مايو/أيار 2018 حكماً يقضي بالسجن 32 شهراً على محمد هكان أتيلا، مساعد المدير العام السابق لمصرف بنك هالك التركي الحكومي، في حين استأنف المصرفي السابق الحكم، واحتجت أنقرة بشدة على إدانته، وتسعى لرفع هذه العقوبات وتسليم هاتان أتيلا الموقوف في نيويورك، إلا أن بعض التصريحات تشير إلى رفض هذا المقترح من قبل الإدارة الأمريكية.
– الملف العسكري:
يعد الملف العسكري بشقيه؛ الميداني وملف التسليح، من الملفات الشائكة، خصوصاً أن أمريكا لم تتخلَّ إلى الآن عن دعم الوحدات الكردية، إضافة إلى تلك الملفات التي لم تُوضع لها رؤية واضحة من أجل إيجاد حل، ومنها صفقة التسليح الخاصة بطائرات الشبح الأمريكي (إف-35) التي ترغب تركيا في الحصول عليها ويرفض الكونجرس الأمريكي ذلك حتى الآن، إضافة إلى صفقة الأنظمة الدفاعية الجوية الروسية (إس-400) التي تسعى أمريكا إلى وقفها، بالوقت الذي تصر فيه أنقرة على موقفها ورغبتها في اقتناء هذه التقنية الحديثة، فضلاً عن النزاع في فلسطين سوريا، وهذا الملفات ربما ستظل مفتوحة، وقد تؤدي إلى تأزم العلاقة بين البلدين من جديد.
خاتمة
شهدت العلاقة بين واشنطن وأنقرة خلال الشهور الماضية حالة تأزم شديد يراها البعض هي الأخطر بسبب الخلافات التي تمس العلاقة الثنائية وتعارض المصالح بين البلدين، في حين يصر الأتراك على تسوية الأزمة ولكن ليس على قاعدة الخضوع للضغوط والإذعان للتهديدات كما جاء على لسان المسؤولين الأتراك، ولكن على قاعدة التفاهمات المشتركة، ولعل الإفراج عن القس سوف يحسن من العلاقة بين البلدين ويفتح طريقاً للتفاهم من جديد، لا سيما أنه قد أعقب ذلك زيارة وزير الخارجية الأمريكي لأنقرة، إلا أن ذلك لا يعني تسوية كل الملفات الشائكة، وخصوصاً تلك الملفات الكبيرة، والعسكرية منها بوجه الخصوص.