يشهد العديد من مدن السودان احتجاجات غير مسبوقة منذ 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي، بدأت مدفوعة بتدهور الأحوال المعيشية، لكن شعاراتها سرعان ما تطورت إلى المطالبة بإسقاط نظام الرئيس عمر البشير، ويصفها مؤيدوها بالثورة، حيث دخلت الاحتجاجات مساراً تصاعدياً (1 يناير/ كانون الأول الجاري) بعد تأييد قوى سياسية متمثلة بـ(الجبهة الوطنية للتغيير)، المكونة من 22 حزباً وحركة، لمطالب المتظاهرين، وأعلن ما كان منها منضوياً في الحكومة الانسحاب منها.
بالمقابل أعلن الحزب الحاكم والحكومة السودانية تفهمهما لمطالب المحتجين المعيشية، ووعدت الحكومة بإصلاحات اقتصادية، داعية المعارضة إلى التفاعل الإيجابي والتوقف عن المغامرات غير المحسوبة.
وخلال حكمه الممتد على ثلاثين عاماً تمكن نظام الرئيس عمر البشير من مواجهة العديد من التحديات، متمثلة بحروب داخلية واحتجاجات سلمية، وحصار اقتصادي وسياسي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، فهل يتمكن نظام البشير من احتواء هذه التظاهرات أم أنها ليست كسابقاتها؟
يستعرض تقدير الموقف أسباب الاحتجاجات وأهداف المحتجين، وموقف القوى الفاعلة المحلية والدولية، واستشراف المآلات.
سياقات الاحتجاجات
بعد يومين فقط من زيارة الرئيس السوداني عمر البشير لرئيس النظام السوري بشار الأسد في دمشق، وعلى نحو مفاجئ اندلعت موجة احتجاجات في مدن سودانية؛ بسبب الندرة والغلاء في الخبز والمواد الغذائية والمشتقات النفطية، وتدهور سعر العملة الوطنية والخدمات العامة، ابتدأت شرارتها من مدينة عطبرة الشمالية، وانضمت لها مدن أخرى تعد حاضنة للحزب الحاكم وصولاً إلى العاصمة الخرطوم، وقد تفاوت حجم مشاركة المواطنين فيها من منطقة لأخرى ومن يوم لآخر أيضاً، وقد تسببت الاحتجاجات بحرق عدد من المكاتب الحكومية وبعض مقار الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني).
وفي الوقت الذي أعلنت فيه الجهات الرسمية أن من حق المواطنين التظاهر، وأقرت بتفهمها لأسبابه، فقد تعاملت القوات الأمنية معها بحزم، حيث اعتقل جهاز الأمن في الأسبوع الأول نحو عشرة من قيادات تحالفَي المعارضة: (نداء السودان) و(الإجماع الوطني)، وقد طالت حملات الاعتقال أيضاً بعض النشطاء وقادة أحزاب المعارضة في الولايات، وعرضت الأجهزة الأمنية بعض الأدوات العسكرية، مدعية ضبطها خلايا تخريبية تابعة لحركات متمردة، مدعومة من الاحتلال الإسرائيلي وقوى أجنبية.
الجدير بالذكر أن العديد من الدول ذات المستويات الجيدة من النمو شهدت خلال العام الماضي أزمة اقتصادية، كما أن نظام الرئيس عمر البشير قد نجا من موجة ثورات الربيع العربي في عام 2011، وهو العام الذي جرى فيه انفصال جنوب السودان عقب استفتاء بموجب اتفاق السلام. كما استطاع تجاوز الاحتجاجات القوية التي اندلعت في العاصمة الخرطوم في سبتمبر/أيلول 2013، والتي تعاملت معها الأجهزة الأمنية بصرامة، وفي مطلع العام 2014 نظم حوار وطني بمشاركة أغلب القوى السياسية والاجتماعية، من ضمنهم خصمه الدكتور الراحل حسن الترابي وحزبه (المؤتمر الشعبي)، والصادق المهدي زعيم حزب الأمة، لكن الأخير أعلن عدم الاستمرار في الحوار الوطني. وقد أشرك نظام البشير القوى السياسية التي استمرت في الحوار وقبلت بنتائجه في السلطة بنسب متفاوتة، وتبنى وثيقة الحوار كبرنامج عمل للحكومة بحسب ما يدعيه.
المواقف المحلية
المعارضة السودانية: على الرغم من أن المعارضة السودانية تعاني من كثرة الكيانات وحالة تشتت من جراء غياب رؤى مشتركة، والتشكيك الذي يجري فيما بينها بسعي بعضها لإبرام صفقات مع النظام، واتهامها بمحاولة (ركوب) موجة الاحتجاجات الشعبية لتحقيق أهدافها، فقد تمكن جزء منها يعرف باسم (الجبهة الوطنية للتغيير)، وتضم 22 حزباً، بالإضافة إلى حزب الأمة، من إعلان موقف موحد مؤيد للمظاهرات، ووجهت مذكرة للرئيس عمر البشير تطالبه بـ”تشكيل مجلس سيادة انتقالي لتسيير شؤون البلاد بدلاً عن الرئيس، وتشكيل حكومة قومية تضم كفاءات وممثلي أحزاب”. وطالب التحالف أيضاً “بحل البرلمان بغرفتيه الأولى (المجلس الوطني) والثانية (مجلس الولايات)، وتعيين مجلس وطني يتكون من مئة عضو”، إلى جانب “حل حكومات ولايات البلاد الـ18 ببرلماناتها”.
وكان الصادق المهدي أعلن أن حزبه سيقدم مذكرة للرئاسة السودانية، “إما أن تحظى بالموافقة، أو يقود رفضها نحو السير في طريق الانتفاضة الشعبية”. ويدعو المهدي أحزاب المعارضة إلى الاتفاق على مذكرة تقدم للرئاسة السودانية تتضمن خطوات الحل بإقامة حكومة انتقالية، “بما يجنب البلاد الوقوع في الشرور والتمزق”.
وتحاول المعارضة الاستفادة من هذه التظاهرات الشعبية في الإطاحة بنظام البشير وتقليص سيطرة المؤتمر الوطني الحاكم على السلطة، إن لم يكن إقصاءه، غير أن المعارضة السودانية عادة لا تعمل في إطار واحد؛ نتيجة لعدة عوامل أهمها اختلاف المرجعيات، وغياب الرؤى المستقبلية المشتركة. وتُتهم المعارضة السودانية بعجزها عن تقديم رؤية إصلاحية موضوعية، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي، وعدم إدراكها للمخاطر التي قد تنزلق إليها البلاد، وهو ما انعكس على حضورها الشعبي وضعف ثقة الشارع بها.
وبالقدر الذي ترفد المعارضة التظاهرات وتكسبها حالة تنظيمية فإنها في المقابل قد تحرف فعل الشارع من كونه حركة شعبية تطالب بالإصلاح إلى أزمة سياسية يتم التفاوض عليها بين النخب والسلطة.
حزب المؤتمر الوطني الحاكم
أبدت الحكومة والحزب الحاكم حساسية شديدة في تعاملها مع الأحداث، متخوفة من سيناريوهات شبيهة بالحالة الثورية 2011 في بعض الدول العربية، مؤكدة تفهمها لأسباب الاحتجاجات الناتجة عن صعوبة الحالة المعيشية، ووعدت بمعالجتها وحل الأزمة الاقتصادية قريباً، وأكدت أنها لن تتهاون مع التخريب، متوعدة مقلقي الأمن.
وقالت وكالة السودان للأنباء إن الرئيس البشير أصدر قراراً جمهورياً بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق (مساء الاثنين 31 ديسمبر/كانون الأول 2018)، بشأن الأحداث الأخيرة التي شهدتها البلاد، برئاسة وزير العدل السوداني، وأعلن وزير الداخلية، أحمد بلال، وقوف الشرطة الكامل والتام مع الرئيس عمر البشير.
من جهة أخرى قلل الحزب الحاكم (المؤتمر الشعبي) من تداعيات انسحاب تلك الأحزاب من الحكومة؛ لأن مشاركتهم في الأجهزة التنفيذية والتشريعية محدودة، ولا تؤثر في المسار السياسي، وأغلب هذه الأحزاب بلا وزن جماهيري أو سياسي، معتبراً أن بيان 22 حزباً التي تدعو نفسها بالجبهة الوطنية للتغيير “خروج عن الإجماع الوطني الذي تمثله الوثيقة الوطنية، وموقف مخالف للممارسة السياسية الأخلاقية”، ومحذراً إياها من مغامرات غير محسوبة. جاء ذلك على لسان رئيس قطاع الإعلام في الحزب، إبراهيم الصديق، الذي أضاف أن ستة أحزاب فقط من هذه المجموعة شاركت في الحوار الوطني وكانت حتى قبل يومين جزءاً من العملية السياسية وأجازت الميزانية.
المواقف الخارجية
تباينت المواقف الخارجية الرسمية والشعبية؛ ففي حين بدت الأخيرة أكثر تروياً فقد انقسمت- ومن ضمنها بعض الأصوات المحسوبة على قوى الربيع العربي- بين أصوات تتسم غالبيتها بالخشية من تداعيات الاحتجاجات على استقرار السودان ومستقبله، لا سيما في ظل الاستقطاب الدولي الحاد في المنطقة، وأصوات أخرى مطالب المحتجين بضرورة تغيير نظام الرئيس عمر البشير، وقد عدَّت الاحتجاجات استمراراً للحالة الثورية المنتصرة لإرادة الشعوب، بعد أن ظنت قوى الثورة المضادة أنها قد تمكنت من ردع المجتمعات من تكرار الحالة الثورية.
أما المواقف الرسمية للحكومات العربية فقد بُنيت وفق حساسيتها من الثورة وعلاقتها بنظام الرئيس عمر البشير، وسياسته الخارجية التي تتصف بعدم الاستقرار والثبات في علاقاتها ومواقفها ويغلب عليها التناقض. وعلى الرغم من تمكن نظام البشير من تطبيع علاقته بعد الحصار السياسي والاقتصادي الذي فرض عليه مع عدد من البلدان، فإن تلك العلاقات والتحالفات لم تنعكس إيجاباً على اقتصاد بلاده، لأن نظام البشير بخلفيته الإسلامية لم يحظ بالقبول لدى أغلبية الأطراف الإقليمية والدولية.
لذلك تتصف المواقف الإقليمية بعمومها بالقلق من الاحتجاجات؛ لما قد تشكله من موجة ثانية تحفز بعض الشعوب في دول المنطقة لتكرار الحالة الثورية من جديد، وهو ما انعكس في التردد الرسمي في التعليق على الاحتجاجات وضعف وطبيعة التغطية الإعلامية، وقد تجلت هذه الخشية في الموقف المصري رغم التناقضات الإيديولوجية بين النظامين والاختلافات السياسية؛ إذ زار وزير الخارجية المصري، سامح شكري، مع رئيس جهاز المخابرات، العاصمة السودانية للتباحث وإعلان مساندة مصر لنظام الرئيس عمر البشير.
وتبدو دولتا قطر وتركيا أكثر الدول خشية من تداعيات إسقاط نظام البشير ودخول السودان في الفوضى، نظراً لحجم العلاقات والمصالح التي تربطانهما مع نظامه، حيث تتمتع دولة قطر بعلاقات مميزة معه، وقد كان لها أدوار مهمة في مفاوضات الحكومة السودانية مع الحركات المسلحة، ورعت اتفاقيات دارفور، ورغم التقارب الذي شهدته علاقة السودان مع السعودية والإمارات بعد قطع علاقتها الدبلوماسية مع إيران والمشاركة بعاصفة الحزم في الحرب الدائرة في اليمن منذ مارس/آذار 2015، والتزامه الحياد في الأزمة الخليجية منتصف العام 2017، فقد استمر التفهم القطري لموقف السودان.
أما تركيا التي وقعت اتفاقيات استراتيجية مع السودان مُنِحت بموجبها جزيرة سواكن الواقعة على البحر الأحمر لها لإعادة ترميم المنشآت العثمانية وتنشيط السياحة، وقد كشف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن وجود ملحق سري لم يفصح عن محتواه.
ويمكن الإشارة إلى أن العديد من الدول قد سارعت إلى تهنئة الرئيس السوداني بذكرى استقلال بلاده، لكنها أحجمت عن المبادرة بتقديم أي مساعدات مادية في سبيل التخفيف من الأزمة الاقتصادية، على الرغم من تحالفه مع بعضها في عاصفة الحزم، وقطعه لعلاقاته مع إيران، ومحدودية الاقتصاد السوداني الذي يمكن أن تُحدِث فيه المساعدات الخارجية فارقاً يمكن أن ينعكس إيجاباً على حياة المواطنين، حتى ولو كانت محدودة وبصيغة قروض.
وقد لوحظ استبعاد دور السودان (نظام البشير) في المصالحات الأفريقية بزعامة إثيوبيا وبمشاركة إرتيريا والصومال، والتي قامت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة بدور في تلك المصالحات، وكذلك المصالح التي قد تترتب عليها برعاية أمريكية بهدف الحد من نفوذ الصين في شرق أفريقيا.
أما الموقف الغربي فما زال تعاطيه مع الأحداث غير واضح، على عكس تفاعله مع ما شهدته بلدان الربيع العربي عام 2011، وربما يعود ذلك إلى أن اندلاع الاحتجاجات في السودان حدث بعد المظاهرات التي شهدتها فرنسا، وتزامنت مع عودة تطبيع علاقات بعض الدول مع نظام بشار الأسد، الذي تسعى القوى الدولية لاستعادة دوره في المشهد الإقليمي من جديد.
وبقدر ما يكشف انضمام أحزاب المعارضة بتنوعها المضاد للاحتجاجات ظهْرَ نظام الرئيس عمر البشير، فإنها قد تحرف فعل الشارع من كونه شرارات ثورة إلى أزمة سياسية تطيل بعمر النظام، خاصة بعد أن يكون قد استوعب الصدمة.
السيناريوهات
الاحتجاجات قد تكون فاجأت جميع القوى السياسية في السلطة والمعارضة من حيث التوقيت وسقفها المرتفع أيضاً، لكن الغالبية تقر بأسبابها ، وفي الوقت الذي يصعب الجزم بموثوقية تحول الاحتجاجات إلى ثورة أو فوضى، يصعب كذلك التنبؤ بسلوك الرئيس عمر البشير الذي تتوقف عليه سيناريوهات الأزمة، التي عادة ما يرتبط تطورها بطريقة تعامل السلطات الرسمية وأجهزتها التنفيذية مع المتظاهرين، ودور المعارضة والقوى الخارجية.
السيناريو الأول: احتواء الاحتجاجات وبقاء الرئيس
يتوقع هذا السيناريو المرجح تمسك الحزب الحاكم والمؤسسة العسكرية بالرئيس عمر البشير في هذه المرحلة، انطلاقاً من أنهما مستهدفان معاً، خاصة في ظل الخطاب الإقصائي من قبل الأحزاب اليسارية والحركات المسلحة، ومن ثم فإن أي تنازل منهما ستتبعه سلسلة من التنازلات لارتفاع سقف المعارضة مع كل تنازل.
ويستند هذا السيناريو إلى تمسك الرئيس عمر البشير بمنصبه، واحتفاظه بمجموعة أوراق لم يستخدمها بعد، كإعلان حالة الطوارئ، واعتقال القيادات المحركة للاحتجاجات بعد انكشافها، أو الدعوة إلى انتخابات مبكرة دون أن يترشح هو (الرئيس البشير)، وتلويحه للشرطة بأن قتل المخربين نوع من القصاص الذي يحفظ حقوق المواطنين وأرواحهم، وتمتع نظامه بكتلة مؤدلجة مساندة له، بالإضافة إلى تغير المزاج العام المحلي والإقليمي من تداعيات الاحتجاجات على استقرار الدولة وتعرضها للتمزق، خاصة في ظل نشاط الحركات المسلحة بهوياتها المناطقية والجهوية، وغياب المشروع والقيادة الموحدة لدى المعارضة، ولغياب الوضوح في كيفية التعامل مع تطورات ما بعد إسقاط النظام، وأن استمرار الاحتجاجات سيفاقم أزمة الاقتصاد، والأهم غياب الدعم الخارجي الرسمي والمبادرات السياسية المنظمة لعملية الانتقال السلس للسلطة حتى اللحظة.
السيناريو الثاني: الإطاحة بالرئيس عمر البشير وبقاء المؤسسة العسكرية
من الممكن أن يؤدي تصاعد الاحتجاجات والعنف المصاحب لها، في ظل تأييد أغلبية قوى المعارضة، ومن ضمنها بعض الأحزاب الإسلامية، لمطالب المحتجين المتمثلة بسقفها الأعلى وهو إسقاط نظام البشير؛ إلى تحقيق هدفها بالإطاحة بنظام البشير أو دفع جزء فاعل من المؤسسة العسكرية والحزب الحاكم إلى تنحية الرئيس عمر البشير ولو عن طريق انقلاب عسكري، بما يحفظ بقاء النظام.
ويبقى هذا السيناريو وارداً في ظل استمرار الأزمة الاقتصادية في مختلف القطاعات، والتي مست القوت اليومي للمواطنين، وعجز النظام عن معالجتها، وهو ما تسبب في فقد وعوده ثقة المواطنين، خاصة في ظل غياب الدعم المادي الخارجي من قبل دول الخليج العربي.
السيناريو الثالث: بقاء النظام مع توسع الفوضى
إذا ما استمرت الاحتجاجات وبقي النظام متمسكاً بالرئيس عمر البشير، وعجز عن القيام بإصلاحات اقتصادية، وفشل في التوصل إلى تفاهمات مع المعارضة والمحتجين عموماً، نظراً لفقدان الثقة، وهدر كثير من فرص الإصلاحات خلال الفترات الماضية؛ يتوقع هذا السيناريو بقاء النظام برئيسه، مصحوباً بتوسع الفوضى في المناطق الثانوية، وخروجها عن سيطرة مؤسسات الدولة، مع تصاعد التدخلات الدولية على خط الأزمة، ومن ثم مزيد من تدهور الحالة المعيشية، وضعف مؤسسات الدولة.