مقدمة
وسط الصراعات المتلاحقة بمنطقة الشرق الأوسط برزت إلى دائرة الضوء منطقة شرق البحر المتوسط، التي اندلع بها صراع مكتوم بين دول الحوض لتنافسها على مكامن تحوي احتياطات هائلة من (الغاز الطبيعي)، حتى إن البعض شبه الأمر بالفورة التي ظهرت بمنطقة الخليج العربي في بداية السبعينيات.
ففي الوقت الذي تشهد فيه أسواق النفط العالمية تَغيُّرات في أغلبها سلبية، خصوصاً مع تزايد حالة التوتر الأمني بمناطق التصدير، وخروج العديد من منتجي ومصدري النفط الخام من دائرة الإنتاج نتيجة لمُعطيَات سياسية وأمنية، شهدت أسواق الغاز العالمية تغيرات متسارعة أغلبها إيجابية تدعم دور الغاز كمصدر مهم وأساسي للطاقة في مقابل بقية المصادر التقليدية منها والمتجددة.
وفي السنواتِ الأخيرة أصبح الغاز الطبيعي أهم مصادر الطاقة المطلوبة عالميّاً؛ وذلك لعدة أسباب، من بينها تزايد طلب الدول الصناعية؛ لزيادة إنتاجها، خصوصاً مع الزيادة الكبيرة في حجم الإنتاج الصناعي السنويّ، يُضاف إليه الصعوبات التي تواجه الدول المنتجة للنفط في وضع معايير لسياسة إنتاجٍ وتصدير موحدة تلتزم بها لإمداد الدول الصناعية؛ وذلك لاختلاف ظروف كل دولة نفطية من حيث اكتفاؤها الذاتي من الإنتاج من جهة، واختلاف مصالحها من جهة أخرى، وللضغوط التي تُمارس على الدول المصدرة للنفط لزيادة الإنتاج، وتثبيت الأسعار. ومن تلك الأسباب أيضاً تطبيق دول أوروبا الصناعية إجراءات اتفاق الحد من التلوث البيئي، وإغلاقها العديد من المفاعلات النووية المولدة للطاقة، واعتمادها على الغاز الطبيعي كمصدر نظيف وجيد للطاقة. كل ذلك أدى إلى حدوث تغيرات ملحوظة في خريطة إنتاج الغاز الطبيعي وتصديره واستهلاكه على مستوى العالم، وقد أعطت تلك التغيرات في مجملها إشارات واضحة للأسواق على استمرار تفوق الغاز بصفته مصدراً نظيفاً للطاقة له كثير من المزايا مقارنة بغيره من المصادر التقليدية والمتجددة، ومؤشرات على تزايد التنافس عليه، كما ألقت تلك التغيرات الضوء على خريطة إنتاج وتصدير الغاز حول العالم، في محاولة لرسم ملاح التغير في تلك الخريطة.
لقد ازدادت القناعة عند حكومات الدول الكبرى بأن النفوذ في دول موارد الغاز الطبيعي وأنابيبه وممراته أصبح أحد المعايير المهمة للقوة الجيوسياسية في العالم، وأحد أسس التنافس الدولي. ومما زاد من حدة هذا التنافس أن روسيا- مع قدوم بوتين- أدركت أن التركيز على التسلح مع ضعف النفوذ والسيطرة على مكامن ومصادر الطاقة العالمية كان أحد أسباب تفكك الاتحاد السوفييتي، وبذلك ارتكزت آليات تنافس الدول الكبرى لتشكيل النظام الدولي الجديد على معادلة التحكم في الطاقة بشكل عام، والغاز الطبيعي بشكل خاص.
مؤخراً تصاعد حجم التوتر بين دول شرق البحر المتوسط إثر الإعلان عن وجود كميات ضخمة من الغاز الطبيعي بسواحل بلدان تلك المنطقة، وسعت كل من تركيا وقبرص اليونانية ومصر و(الكيان الصهيوني) بشكل أساسي إلى الحصول على أكبر حصة من هذه الثروة؛ من خلال رسم خريطة جديدة بين الأطراف المتنازعة؛ فأنقرة تلوّح بالتهديد العسكري ضد قبرص التي ترى أن تحركها من أجل التنقيب في السواحل ليس من حقها، وعقدت اتفاقيتين مع ليبيا إحداهما عسكرية تسمح لتركيا بالتدخل في ليبيا، وأخرى موازية تسمح برسم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، وضمنياً تسمح بنقل الغاز المكتشف في السواحل الليبية عبر تركيا.
وعلى الجانب الآخر، تُصر القاهرة على تطبيق اتفاقية ترسيم الحدود مع قبرص واليونان، وتحذر من أي تعدٍّ عليها، وهو ما رفضته تركيا التي تؤكد أن الاتفاقية غير قانونية. وزادت المخاوف في الفترة الأخيرة من تطور الصراع ليتخطى الاشتباك القانوني والسياسي إلى حروب مسلحة لحسم النزاع الدائر.