شهدت بيروت انفجاراً يعد الحدث الأكبر في تاريخها الحديث، إذ تسبب 2750 طناً من نترات الأمنيوم، كانت مخزنة في مرفأ بيروت منذ 2014، في حدوث انفجار امتد إلى لا يقل عن 7 إلى 8 كيلومترات، بطاقة زلزالية تعادل 4.5 درجة على مقياس ريختر، وفقاً لمحطات رصد الزلازل الأردنية التي سجلت الانفجار الساعة 06:08 دقائق مساءاً.
خلَّف الانفجار مجموعة من الخسائر البشرية والمادية، إذ بلغت حصيلة القتلى من جرائه 137 قتيلاً وقرابة 5 آلاف جريح، و300 ألف شخص في عداد المشردين بعد أن فقدوا منازلهم التي دمرت بسبب الانفجار.
إضافة إلى ذلك خلَّف الانفجار صدمة كبيرة على المستويين المحلي والدولي، صاحبتها جملة من التكهنات التي فرضها التوقيت المكاني والزماني للانفجار. فمنذ سبتمبر/أيلول 2019 يعاني لبنان موجة من الاحتقان السياسي نتيجة للفساد الإداري والاقتصادي الذي خلفه نظام المحاصصة، وما عزز من هشاشة وضعه الداخلي قربه الحدودي من الكيان الصهيوني.
كذلك فإن الانفجار جاء مباغتاً للأطراف الداخلية والخارجية على حد سواء، إذ كان العالم- ولبنان- يترقب صدور حكم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان يوم الجمعة 7 أغسطس/آب، أي بعد ثلاثة أيام من الانفجار، في قضية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، من جراء تفجير ضخم بسيارة مفخخة هز بيروت في 14 فبراير/شباط 2005.
يبحث تقدير الموقف في التداعيات التي سيخلفها الانفجار على الجانب الاقتصادي والسياسي والأمني في لبنان.
سياقات الانفجار
جاء الانفجار في وقت يعاني فيه لبنان من جملة من التحديات الاقتصادية والأمنية والسياسية، فعلى المستوى الاقتصادي يعاني لبنان، منذ أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، حالة احتقان شعبي بسبب تدهور الأوضاع المعيشية، وتفشي البطالة، وانهيار العملة اللبنانية، وارتفاع الأسعار بشكل جنوني.
ونتيجة لغياب خطة إصلاح اقتصادي شاملة فشل لبنان في الحصول على قرض من البنك الدولي بقيمة 10 ملايين دولار للخروج من أزمته الخانقة، وسيواجه خلال المرحلة القادمة جملة من التحديات الاقتصادية الإضافية؛ من جراء الانفجار الذي أصاب مرفأ بيروت.
في الجانب السياسي يعاني لبنان حالة هشاشة سياسية مزمنة فرضها نظام المحاصصة الذي أعقب تطبيق اتفاقية الطائف عام 1989، والذي أسس لاقتسام السلطة على أساس الانتماءات الدينية والطائفية، وهو ما أدى إلى ارتهان الحُكم في لبنان للقوى المتنفذة المحلية أو المرتبطة بجهات إقليمية ودولية.
أدى هذا الوضع إلى شبه غياب لدولة المؤسسات، التي انقسمت بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، في 14 فبراير/شباط 2005، بين قوى (8 آذار)، ويتصدر مشهدها السياسي حزب الله والتيار الوطني الحر، وقوى (14 آذار)، بقيادة تيار المستقبل وحزب القوات اللبنانية وحزب الكتائب.
ولذا على الرغم من التصريحات الحكومية التي ربطت بين الانفجار وعملية سوء التخزين والإدارة في المرفأ، ذهبت التكهنات إلى وجود أسباب خارجية- لا فنية- قد يكون لها دور في حدوث هذا الانفجار، خصوصاً أنه جاء قبل ثلاثة أيام فقط من إصدار محكمة -مدعومة من الأمم المتحدة- قرارها بحق أربعة أشخاص مشتبه فيهم من حزب الله في تفجير وقع عام 2005، بسيارة ملغومة على بعد نحو كيلومترين عن ميناء بيروت، وأدى لاغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري و21 شخصاً.
في الجانب الأمني جاء هذا الانفجار بعد أن شهد لبنان توتراً صريحاً بين الكيان الصهيوني وحزب الله، في يوليو/تموز المنصرم، إذ حاولت خلية من حزب الله استهداف الكيان الصهيوني رداً على عمليات استهدافه لقيادات من حزب الله في الداخل السوري، غير أن الطرفين لم ينزلقا إلى مواجهة مباشرة نظراً للظروف الأمنية الحرجة التي تعيشها المنطقة ككل خلال المرحلة الراهنة.
وأمام الواقع الذي فرضه انفجار مرفأ بيروت يواجه لبنان تحديات سيكون لها انعكاسات على المستويين الداخلي والخارجي.
الانعكاسات على الداخل اللبناني
على المستوى الداخلي يواجه لبنان انعكاسات اقتصادية وأمنية وسياسية سيكون لها التأثير الأكبر في استقرار البلد من عدمه خلال المرحلة القادمة.
– الانعكاسات على الجانب الاقتصادي
على المستوى الاقتصادي تعد الأزمة الاقتصادية الحالية هي الأسوأ منذ الحرب الأهلية التي حدثت بين عامي 1975 و1990م. إذ تدهورت الأوضاع الاقتصادية بسبب نسب الفساد العالية، وسوء الإدارة، وتراكم الديون العامة التي وصلت، في نهاية أبريل/نيسان الماضي، إلى نحو 93 مليار دولار، أي أكثر من 170% من الناتج المحلي الإجمالي، إضافة إلى انهيار الليرة اللبنانية بأكثر من 80% من قيمتها أمام الدولار الأمريكي في شهور قليلة، ما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية بأكثر من ثلاثة أضعاف، وهذا بدوره أدى إلى تدهور الأوضاع المعيشية وارتفاع نسبة الفقر وتفشي البطالة؛ إذ يُقدَّر أن نصف سكان لبنان يعيشون تحت خط الفقر، ونحو 35% منهم دون عمل.
فاقم هذه التدهورات الاقتصادية تفشي فيروس كورونا، فضلاً عن الأضرار الجسيمة التي خلفها انفجار مرفأ بيروت، الذي يعد أهم ميناء في لبنان، ومن أهم الموانئ في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، إذ افتُتح المرفأ عام 1894؛ نظراً للموقع الاستراتيجي للبنان، واستُخدِم لاستيراد المواد الأساسية من دول العالم وتصديرها عبر الداخل اللبناني إلى دول الشرق الأوسط، ولذا يعد هذا المرفأ ركيزة أساسية للاقتصاد اللبناني؛ لكونه ذا دور أساسي في عملية الاستيراد والتصدير، ومن ثم تحريك العجلة الاقتصادية اللبنانية.
ويقدر متوسط عدد البواخر التي تدخل ميناء بيروت بنحو 170 باخرة شهرياً، تفرغ نحو 700 ألف طن، وتشحن نحو 70 ألف طن، فيما يقدر متوسط عدد المستوعبات المفرغة بنحو 23 ألف مستوعب شهرياً. ويتعامل مرفأ بيروت مع 300 مرفأ عالمي، ويقدر عدد السفن التي ترسو فيه بـ 3100 سفينة سنوياً، ويتألف المرفأ من 4 أحواض يصل عمقها إلى 24 متراً، إضافة إلى حوض خامس كان قيد الإنشاء، ويضم 16 رصيفاً والعديد من المستودعات وصوامع تخزين القمح التي تؤمن أفضل شروط التخزين.
ونتيجة لتفجيره يواجه الاقتصاد اللبناني خسارة تقدر بخمسة مليارات دولار، موزعة على شقّين، الأول نتيجة توقف المرفأ عن العمل، والثاني كلفة الأضرار التي أصابت المرفأ، وستشمل الخسارة أيضاً حركة الاستيراد والتصدير، وهو ما سيؤثر في القطاع الجمركي بشكل كبير، فضلاً عن تأثر البنية التحتية بشكل كبير، إذ تدمر الميناء بالكامل إضافة إلى البنايات المجاورة له، ولحقت أضرار بقصر بعبدا، مقرّ رئاسة الجمهورية الواقع بالضاحية الشرقية لبيروت، وكذلك مقرّ رئاسة الحكومة وسط العاصمة، بالإضافة لمطار بيروت الدولي بالضاحية الجنوبية.
إضافة إلى ذلك قد يواجه لبنان أزمة غذائية نتيجة لنفاد مخزونه من القمح الذي تلف بسبب التفجير، فوفقاً لوزير الاقتصاد، راؤول نعمة، فإن صومعة الحبوب في ميناء بيروت- وهي الصومعة الرئيسية في البلاد- دُمرت مع القمح الموجود بها في الانفجار، ليصبح لدى البلاد احتياطيات من الحبوب تكفي لأقل من شهر، في حين يحتاج لبنان إلى مخزونات تكفي لثلاثة أشهر على الأقل لضمان أمنه الغذائي.
إلى جانب أزمتي الميناء والقمح التي تواجه بيروت، تأتي أزمة الكهرباء لتعقد من المشهد؛ إذ أدى الانفجار إلى خروج محطة التحويل الرئيسية في الأشرفية عن الخدمة، وقد باشرت فرق الصيانة العمل على إزالة الأضرار تمهيداً للبدء بالإصلاحات الضرورية بغية العودة التدريجية للتيار الكهربائي إلى المناطق المتضررة من بيروت.
وفي نفس السياق، يعاني الاقتصاد اللبناني غياب خطة لمعالجة الأزمة الاقتصادية المتراكمة، وهو ما خلق أزمة ثقة بينه وبين الأطراف الخارجية، فوفقاً لتقرير بلومبيرغ تخلف لبنان عن سداد سندات اليورو في مارس/آذار، وهو ما دفعه إلى الإقبال على محادثات مع صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على برنامج قرض يعادل 10 مليارات دولار. لكن المحادثات تعرقلت بسبب تخبط المسؤولين اللبنانيين في تحديد حجم الخسائر في النظام المالي وعملية تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية اللازمة لإطلاق الأموال.
– الانعكاسات على الجانب السياسي والأمني
يتداخل الجانب السياسي بالأمني في المشهد اللبناني نتيجة لارتهانه للتدخلات الخارجية التي أسس لها نظام المحاصصة الذي طبق بموجب اتفاقية الطائف. ونتيجة لارتهان القرار السياسي لنظام المحاصصة يعيش لبنان أزمات متراكمة أدت إلى تعميق هشاشة الأوضاع الأمنية من جراء غياب مؤسسات الدولة لحساب قوة الأمر الواقع المفروضة بقوة سلاح حزب الله (حليف إيران)، بجانب غياب الدور الرقابي، وتعطيل القضاء، والفساد المالي، وغيره من العوامل التي حولت البلد إلى بيئة مولِّدة للأزمات ومصدرة لها إلى دول الجوار، مثل سوريا، التي تعاني من تدخلات (حزب الله) في الحرب الداخلية، حيث يقاتل بجانب قوات النظام.
ونتيجة لقرب لبنان من حدود الكيان الصهيوني يمثل حزب الله تهديداً صريحاً لأمنه؛ وهو ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية مؤخراً إلى تقليص مساعدتها وفرض عقوبات على (حزب الله) وعدد من قياداته، وهذا أثر بشكل كبير في القطاع الاقتصادي للبلاد ككل.
شهدت العاصمة اللبنانية حراكاً شعبياً احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية والفساد المالي والإداري، مع مطالب بإصلاحات سياسية جذرية منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. ولم تتمكن الحكومات المتعاقبة من الاستجابة لهذه المطالب، إذ اعتذر المرشح المكلف محمد الصفدي، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 عن عدم تشكيل الحكومة، وفشل المكلف سمير الخطيب في تلبية المطالب، وهو ما أدى إلى اعتذاره عن تشكيل الحكومة، وذلك ما دفع رئيس الجمهورية ميشال عون لتكليف حسان دياب، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بتشكيل حكومة نالت ثقة البرلمان، في 11 فبراير/ شباط الماضي. غير أن توالي التحديات- بدءاً من رفض تقديم المساعدات الدولية، ومروراً بتأزم الأوضاع بين الكيان الصهيوني وحزب الله، إضافة إلى جائحة كورونا والانفجار الأخير في مرفأ بيروت- لن تمكن أي حكومة لبنانية من تجاوز هذه التحديات منفردة، بل ستتجه إلى الاعتماد على الدور الخارجي الذي يمثل معضلة حقيقية أمام استقرار لبنان.
الانعكاسات الخارجية
يمثل التدخل الخارجي معضلة حقيقية تعيق استقرار لبنان، ونظراً لتأزم الأوضاع في منطقة البحر المتوسط، واشتداد الصراع بدءاً من طرطوس وانتهاءً بطرابلس ليبيا، فقد يصبح لبنان قبلة جديدة للصراع بالوكالة في المنطقة.
ويتبدى في المشهد الحالي التنافس الواضح بين كل من فرنسا وتركيا على الاستفادة من الانفجار في تعزيز نفوذهما في المنطقة. وتتميز الأولى على الثانية بوجود حاضنة شعبية لها في الداخل اللبناني؛ نتيجة لسياسة الحياد التي تبنتها تجاه جميع الفصائل اللبنانية. كما عزز حضورها في المشهد اللبناني سرعتها في المبادرة إلى تقديم المساعدة على مختلف الأصعدة، ويقرأ هذا الدور على أنه محاولة لفرنسا في استعادة حضورها في ملفات الشرق الأوسط من خلال لبنان، وقد تستفيد الولايات المتحدة الأمريكية من هذا الحضور في إعادة ترتيب خارطة تحالفاتها في الداخل اللبناني.
بالمقابل سارعت تركيا إلى إعلان دعمها للبنان في مختلف المجالات، وأكدت استعدادها لإعادة إعمار مرفأ بيروت وفتحها لميناء مرسين القريب من لبنان لمواصلة الأعمال التجارية اللبنانية لحين إعادة إعمار مرفأ بيروت، ومن ثم نقل السلع والبضائع بواسطة بواخر صغيرة إلى الموانئ اللبنانية الأخرى.
يقرأ هذا التنافس التركي- الفرنسي على أنه امتداد لصراع النفوذ بين البلدين في جبهة جديدة، خصوصاً أن تركيا تمكنت من ترجيح كفة تأثيرها في ليبيا بموجب اتفاقيتها مع حكومة السراج.
كما يبدو جلياً غياب الدور الإيراني رغم قربه وتأثيره في الائتلاف الحاكم، المتمثل بتيار المقاومة بزعامة حزب الله في الداخل اللبناني، وذلك قد يكون نتيجة الشلل الاقتصادي الذي تعانيه إيران من جراء العقوبات التي فرضتها عليها الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى التأثيرات التي خلفها تفشي فيروس كورونا فيها في مطلع العام الجاري.
كما يلاحظ غياب تأثير الدور العربي على المستويين الأمني والسياسي، واقتصاره على الجانب الاقتصادي؛ من خلال الدعم السخي الذي أعلنته كل من قطر والكويت بعد الإعلان عن الخسائر التي خلفها التفجير.
خاتمة
على الرغم من أن المعطيات الأولى لتحقيقات الحكومة اللبنانية تشير إلى حدوث الانفجار بسبب سوء التخزين، يأتي توقيت التفجير ليعمق من التكهنات حول وجود أسباب خارجية، خصوصاً أن لبنان يجاور كثيراً من بؤر الصراع. وبالرغم من مسارعة الكيان الصهيوني إلى نفي تورطه في التفجير فلا يستبعد أن يكون له دور، خصوصاً أن وجود مواد خطرة مثل نترات الأمونيوم يعد تهديداً مباشراً في حال وصلت إلى حزب الله.
يبدو المشهد ضبابياً بالنسبة إلى الداخل اللبناني، خصوصاً أنه يعمق من هشاشته الاقتصادية والسياسية والأمنية، لكنه بالمقابل قد يعد فرصة لتجاوز الأزمة المالية الخانقة التي يمر بها، ولا سيما أن كثيراً من الدول تفاعلت مع احتياجاته الأساسية، كذلك فقد يتمكن من الحصول على القرض الذي رفضه البنك الدولي في وقت سابق، وهذا سيكون له تأثير في الجانب الاقتصادي ككل، لكن ليس بالضرورة أن ينعكس على الجانب السياسي، خصوصاً أن الاحتقان الشعبي بلغ ذروته؛ متمثلاً في مطالبة بعض الأصوات بإعادة الانتداب الفرنسي من أجل التخلص من حالة الفشل السياسي الذي يعيشه لبنان بسبب نظام المحاصصة الذي يعيق أي محاولة إصلاح سياسي واقتصادي حقيقي.