مقدمة
نشأت حركة طالبان الأفغانية عقب الانسحاب السوفييتي من أفغانستان، وتحولت إلى جماعة سياسية وعسكرية مقاومة استطاعت السيطرة على جزء كبير من أفغانستان في مدة قياسية، وكان هناك عدد من المقومات التي ساعدتها على الانتشار والسيطرة، تكمن في الوضع الديمغرافي المساند، والحالة الدينية الملهمة، والواقع السياسي المعقد، والعامل الدولي المشجع، فمن مدارس العلوم الإسلامية خرج هؤلاء الطلاب ليشكلوا حالة من الإنقاذ لشعب أنهكته صراعات المكونات السياسية واقتتالها بعد مغادرة الاتحاد السوفييتي، ثم مع الحكومة التابعة له، واستفادت طالبان من حالة الإحباط التي وصل إليها الشعب، وهو ما شجع على الانضمام إليها، وانخراط كثير من المقاومين السابقين في صفوف هذه الحركة الوليدة.
تأسست طالبان كذلك في دولة متداخلة العرقيات ومتعددة القبائل، حيث تتميز أفغانستان بالتعدد العرقي، وينتشر فيها عدد من الإثنيات والقبائل، ولكل من هذه التجمعات طابعها الخاص، وهو ما جعل المقاومة تأخذ شكلاً عرقياً في بعض محطاتها، كما أن أفغانستان ربما تجمعها وحدة فكرية متقاربة، فالمذهب الحنفي مذهب الأغلبية، وقد كان لهذه العوامل تأثيرها في مسارات الحركة في كل المراحل التي مرت بها، إضافة إلى العوامل الأخرى العرقية والدينية.
أُسست طالبان عام 1994 على يد الملا محمد عمر وخمسين شاباً من طلاب المدارس الدينية، وفي العام نفسه أحكمت سيطرتها على مركز ولاية قندهار؛ المدينة التي انطلقت منها الحركة، وفي غضون سنتين تمكنت من السيطرة على العاصمة الأفغانية كابل وما يقارب 90% من الأراضي الأفغانية، وتمكنت حينها من السيطرة على الوضع العسكري، وبسط حالة من الاستقرار، على الرغم من كل النقد الموجه لها خاصة فيما يتعلق بملف الحريات. لكن تلك الحالة لم تدم طويلاً؛ فسرعان ما سقطت طالبان عام 2001 على يد التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، متهمة تنظيم القاعدة بالمسؤولية عن التفجيرات، ومطالبة حكومة طالبان بتسليم زعيم القاعدة أسامة بن لادن الذي كان يقيم في أفغانستان، ومنذ ذلك التاريخ تعيش طالبان في حالة صراع عسكري مع القوات الأجنبية، هدأ قليلاً بعد توقيع الاتفاق السياسي بين الحركة والولايات المتحدة الأمريكية في مطلع عام 2020.
في هذه المرحلة الطويلة من عام 1994 إلى تاريخ بداية المفاوضات الأفغانية في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2020، مرت طالبان بمراحل عدة، بداية بمقاومة القوات السوفييتية، وهذا قبل الإعلان عن اسم الحركة، ثم محاولة السيطرة على أفغانستان بعد دخول جماعات المقاومة في صراع داخلي، ثم فترة الحكم التي حاولت من خلالها أسلمة الحياة الخاصة والعامة حسب فهمها للدين، ثم العودة للمقاومة بعد سيطرة القوات الأجنبية، ثم مرحلة المفاوضات الأخيرة، وخلال هذه السنوات عاشت تحديات عدة، أظهرت نقاط قوة الحركة ونقاط ضعفها، كما أن السنوات الأخيرة كشفت عن حالة من المرونة النسبية التي توصلت إليها طالبان، من خلال تعاطيها مع المجتمع الإقليمي والدولي، واستطاعت من خلالها أن تقدم نفسها بوصفها حركة سياسية تحاور كبرى الدول العالمية، وعلى الرغم مما توصلت إليه طالبان من إنجاز سياسي فإن هذه المرحلة تكتنفها جملة من التحديات المستقبلية قد تعيد أفغانستان إلى الحالة السابقة في حال استمرارها، وتحتاج إلى خطوات مساندة وسريعة قبل أن تتجدد أحداث نهاية القرن العشرين.
تتناول هذه الدراسة أربعة محاور رئيسية، تتطرق في المحور الأول إلى نشأة الحركة والعوامل المساعدة على نشأتها، والجذور الفكرية التي تنطلق منها الحركة، وفي المحور الثاني تعريف بالصفات والخصائص المشتركة التي يتمتع بها رموز طالبان وأبرز قياداتهم السياسية، ومراحل تشكلهم وإسهامهم في الساحة العسكرية والسياسية، وتعرج في المحور الثالث على مسلكها السياسي والعسكري بمناقشة أدائها وممارساتها في الحكم والمعارضة، وأبرز نقاط قوتها وضعفها، وتختتم الدراسة بمحور رابع يبحث في اتفاق السلام بين أمريكا وطالبان، وموقع الحكومة والفصائل الأفغانية في الاتفاق، والتحديات المستقبلية أمام السلام الأفغاني ومآلاته.
نأمل أن تشكل هذه الدراسة نافذة موضوعية لقراءة هذه الحركة، وما لها وما عليها، والاستفادة من نقاط ضعفها وقوتها، وفتح المجال للاستفادة من التحديات أمام علمية السلام الأفغاني، في محاولة لتقريب آفاق السلام، وتجاوز التحديات القادمة.