ترتبط واشنطن وأنقرة بعلاقات ثنائية متشابكة ذات مصالح استراتيجية لها بعدها الإقليمي والعالمي، إذ حرصت واشنطن وأنقرة خلال السنوات الماضية على التعاون المشترك في قضايا المنطقة، بالإضافة إلى تحقيق المصالح الثنائية، ولكن في الوقت ذاته واجه البلدان عدداً من الملفات الشائكة، وعلى رأسها الدعم الأمريكي للمتمردين الأكراد، وعدم تسليم فتح الله غولن، والتطور المستمر في علاقات أنقرة مع موسكو، بالإضافة إلى التحركات التركية في المنطقة.
هذه العلاقة مرت بمراحل متعددة، اكتنفتها حالات من الصعود والهبوط خلال إدارة ترامب، وفي البدايات الأولى من تولي بايدن رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، الذي أثارت تصريحاته المنتقدة لسياسة تركيا الداخلية والخارجية ردود فعل تركية، حيث رفضت الأحزاب التركية– الحاكمة والمعارضة- تلك التصريحات، وطالبته باحترام سيادة تركيا وديمقراطيتها.
يحاول تقدير الموقف أن يقف على أهم معالم العلاقة الثنائية بين البلدين في عهد بايدن، ويناقش أهم القضايا التي قد تصعد الخلاف بشكل كبير بين واشنطن وأنقرة، ويستشرف مستقبل هذه العلاقة.
منعطفات مهمة في العلاقة بين البلدين
تطورت العلاقات الأمريكية التركية تحديداً عقب الحرب العالمية الثانية؛ نتيجة انضمام تركيا إلى جانب الحلفاء، وبناء سياستها الخارجية على التقارب مع الغرب، وما تبعه من انضمام إلى عضوية الأمم المتحدة عام 1945، ثم إلى عضوية الناتو في 1952. وكان لتركيا منذ التوقيع على معاهدة شمال الأطلسي- المؤسسة لحلف الناتو- دور في حماية الدول الأعضاء في الحلف الأوروبيين من الجانب الجنوبي الشرقي خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي.
وبعد تسلم حزب العدالة والتنمية للسلطة مرت العلاقة بمراحل متعددة بين الانسجام والترنح، ولعل أبرز هذه المراحل هي:
1. مرحلة القوة في العلاقات
– شهدت العلاقات في تلك المرحلة توسع الدعم العسكري الأمريكي لتركيا من أجل تشكيل خط دفاع لمواجهة الخطر السوفييتي.
– عقدت واشنطن عدداً من اتفاقيات الدفاع المشترك مع أنقرة، والتزمت الولايات المتحدة بموجبها بتقديم الخدمات العسكرية والمعدات الحربية.
– التدريبات العسكرية المشتركة.
2. مرحلة حزب العدالة والتنمية
كانت علاقة البلدين قوية قائمة على تبعية تركيا للولايات المتحدة الأمريكية، إلى أن قدم حزب العدالة والتنمية وتمكن من الوصول إلى السلطة عام 2002، وقام بما يأتي:
– إعادة هيكلة سياسة تركيا الخارجية على نحو مغاير لسياسة التبعية السابقة.
– تبنت تركيا سياسة قائمة على عدد من المبادئ الجديدة، منها تصفير المشاكل مع دول الجوار.
– اتباع سياسة أكثر ديناميكية وحركية على الساحة الدولية والإقليمية، وابتعدت عن الجمود الذي كان يسود سياستها الخارجية السابقة.
– رفض البرلمان التركي السماح للولايات المتحدة وحلف الناتو باستخدام قاعدة إنجرليك لإسقاط نظام صدام حسين في العراق عام 2003.
3. مرحلة التذبذب في العلاقة
في هذه المرحلة بدأت العلاقات بين واشنطن وأنقرة ترسم معالمَ جديدة، إذ رغبت واشنطن في إعادة دور تركيا الراعي لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة دون أي اعتراض، في حين رغبت أنقرة بسياستها الجديدة في تأكيد مصالحها وأمنها وعدم تقديم أي تنازلات على حساب مصالحها، وقد كشف عدد من الملفات هوة الخلاف بين البلدين، ومنها:
– ملفات منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما أحداث الربيع العربي.
– العمليات العسكرية التركية في سوريا؛ كعملية درع الفرات في 2016 لدعم المعارضة السورية في محاربة تنظيم داعش في ريف حلب، وعملية غصن الزيتون في يناير/كانون الثاني 2018 للسيطرة على مدينة عفرين السورية من وحدات حماية الشعب الكردية ومسلحي تنظيم العمال الكردستاني، الذين تصنفهم أنقرة منظمة إرهابية، وعملية نبع السلام في أكتوبر/تشرين الأول 2019 في شمال سوريا بهدف إبعاد الوحدات الكردية عن الشريط الحدودي التركي.
– الانقلاب الفاشل في تركيا عام 2016، واتهام أنقرة لواشنطن بالوقوف وراء تدبيره، وحمايتها لأكبر المخططين له، لا سيما بعد رفض واشنطن تسليم “فتح الله غولن” زعيم الجماعة، والمتهم بتدبير الانقلاب العسكري الفاشل.
ركائز التعاون بين البلدين
لا يمكن تصور الصراع التام بين البلدين في ظل التوترات الأخيرة بين الولايات المتحدة وتركيا، وذلك لضرورة تركيا الجيو-ستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فخسارة واشنطن لأنقرة تعني زعزعة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. تركيا في المقابل، بدون دعم الولايات المتحدة لن تتمكن من التمتع بامتيازات حلف الناتو، ومن دون واشنطن قد تفقد أنقرة العديد من المزايا الأمنية والعسكرية التي تتمتع بها، ولعل أهم ركائز التعاون بين البلدين تتمثل في الآتي:
1. شراكة حلف الناتو
أهم دعامة تقوم عليها تحالفات البلدين هي العضوية في حلف الناتو ومساهمة تركيا الكبيرة فيه، فالجيش التركي يعد ثاني أكبر جيش في حلف الناتو بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وثامن عضو يساهم في ميزانية الحلف، بما يصل إلى 90 مليون يورو، وتستضيف تركيا 26 قاعدة عسكرية للحلف، ومراكز الرصد وجمع المعلومات.
2. تحجيم الدور الروسي
الولايات المتحدة بحاجة إلى الحليف التركي في منطقة الشرق الأوسط، فأنقرة تقوم بدور مهم في حماية المنطقة من الاختراق الروسي والتمدد الإيراني، ولهذا منحت الولايات المتحدة الأمريكية الضوء الأخضر للتحرك العسكري التركي في أذربيجان وليبيا؛ لإضعاف الوجود الروسي، كما عملت تركيا على تحقيق توازن للقوى المؤثرة في الداخل السوري، ومنحت الولايات المتحدة الأمريكية القدرة على الحيلولة دون توسع المليشيات الإيرانية ومليشيا الأسد على كامل التراب السوري، واستطاعت توفير ضمانات لمنع تحرك الفصائل السورية لمهاجمة القوات الأمريكية الموجودة في سوريا.
وتولي تركيا أهمية كبيرة لعلاقاتها مع دول البلقان، وتقيم علاقات جيدة مع دول غرب البلقان، باعتبارها نقطة تقاطع حضارية وثقافية، في المقابل تعتبر موسكو تاريخياً منطقة البلقان مفتاح أمنها، لهذا تبذل جهدها للمحافظة على التراث الثقافي هناك، من خلال تنفيذ مشاريع في التعليم والصحة والبنية التحتية، وتدعم أنقرة إحياء مشروع “ألبانيا الكبرى”، وهو مفهوم يهدف إلى توحيد الألبان داخل الأراضي التي يعتبرونها وطنهم الأم.
الملفات الشائكة في علاقات البلدين
على الرغم من التحالف الاستراتيجي الذي يجمع البلدين منذ عقود، لم تخل العلاقة من تصدع في عدد من الملفات الخلافية، ولعل من أبرزها:
1. صفقة شراء منظومة صواريخ إس-400
نشأت الأزمة نتيجة اتفاق تركي روسي في يوليو/تموز 2019 لشراء منظومة صواريخ إس-400، وهو ما أثار التوتر في العلاقات بين واشنطن وأنقرة، إذ ترى واشنطن وحلف الناتو أن شراء منظومة الصواريخ يمثل تهديداً صريحاً لأنظمة دفاع الحلف، في حين ترى أنقرة أن عملية الشراء ضرورية بالنسبة لأجهزتها الدفاعية؛ نظراً لعدم تمكنها من الحصول على صفقات أسلحة بشروط مرضية ضمن حلف الناتو.
ونتيجة لقرار أنقرة فرضت الولايات المتحدة، في 14 ديسمبر/كانون الأول 2020، عقوبات على هيئة الصناعات التركية، وأدرجت اسم مستشار الصناعات الدفاعية بالرئاسة التركية، إسماعيل دمير، وثلاثة مسؤولين في الهيئة في قائمة العقوبات. تضمنت العقوبات أيضاً حظر أي قروض من المؤسسات المالية الأمريكية، وحظر تراخيص التصدير الأمريكية، وأعلن البيت الأبيض تعليق مشاركة تركيا في تطوير برنامج مقاتلات إف-35، فضلاً عن إمكانية عدم بيعه لها. ولم تدفع هذه العقوبات تركيا إلى التراجع عن الصفقة.
موقف الولايات المتحدة لم يتغير مع قدوم بايدن، وقد أعلن المتحدث باسم البنتاغون جون كيربي، في 5 فبراير/شباط 2021، رغبة إدارة بايدن في تخلي تركيا عن صواريخ إس-400، وأن ذلك لا يتوافق مع التزاماتها بوصفها حليفاً للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وهذا ما يرشح إمكانية زيادة التوتر بين البلدين على خلفية الصفقة، ولا سيما مع تصريحات بايدن أمام مؤتمر ميونيخ للأمن، إذ تعهد بايدن بعودة التحالف بين ضفتي الأطلسي، إذ إن عودة واشنطن إلى إحياء الحلف ودوره يعني فرض مزيد من العقوبات والمحاسبة على أنقرة نتيجة الصفقة التي صرحت واشنطن منذ البداية بتهديدها للمنظومة الدفاعية للحلف، ما لم تستجب أنقرة للمطالب الأمريكية؛ بوقفها، أو المباشرة في مفاوضات لإيجاد حل لهذه القضية وللبدء بتحسين العلاقات بينهما.
2. الدعم الأمريكي لأكراد سوريا
يتسع مجال الخلاف في قضية أكراد سوريا الموالين للتنظيمات الكردية المتمردة (منظمة حزب العمل الكردستاني) داخل تركيا، الذين تصفهم أنقرة بالإرهابيين، في حين تدعمهم الإدارة الأمريكية سياسياً وعسكرياً، وقد عبرت الخارجية الأمريكية أكثر من مرة عن قلقها من التدخل التركي في شمال سوريا وصرحت بضرورة وقف العمليات ضد الوحدات الكردية هناك، واتهمت تركيا والفصائل السورية التي تدعمها باستهداف المدنيين الأكراد.
التصور الأمريكي الداعم للأكراد ربما لن يختلف في عهد بايدن، وقد يتضاعف، ولعل من أبرز مؤشرات ذلك:
– تصريحات الإدارة الأمريكية الجديدة تؤكد زيادة التنسيق الأمريكي مع أكراد شمال سوريا لمحاربة التنظيمات الإرهابية.
– لوزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن موقف يدعم المسلحين الأكراد وبشدة، ويدافع عن الشراكة معهم بوصفها شراكة استراتيجية في محاربة الإرهاب. أوستن كان قد عمل عن كثب مع قوات سوريا الديمقراطية أثناء توليه منصب القيادة المركزية الأمريكية.
– تعيين بريت ماكجورك مندوباً للولايات المتحدة عن الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، ويُعرف ماكجورك بدوره في تنسيق العمل مع قوات سوريا الديمقراطية، ويعد من المدافعين عن الأكراد ودورهم في خدمة مصالح الولايات المتحدة.
ولذلك أثارت الأجواء الداعمة للإدارة الجديدة حماسة المتمردين الأكراد لتوجيه ضربات ضد الحكومة التركية؛ إذ عثرت القوات التركية بعد عملية مداهمة “مخلب النسر 2” على رفات 13 مواطناً تركياً أعدموا ميدانياً على يد حزب العمال الكردستاني في منطقة غارا بالعراق، بعد احتجاز دام أكثر من أربع سنوات.
الحادثة أثارت غضب الرئاسة التركية، ودفعت الرئيس أردوغان إلى توجيه انتقاد حاد للولايات المتحدة في 15 فبراير/شباط، طالباً منها عدم الاستمرار في دعمهم. وفي محاولة لاحتواء الغضب التركي قدم وزير الخارجية الأمريكي تعازيه لنظيره التركي في أول مكالمة جمعت الوزيرين، وذكر أن “إرهابيي حزب العمال الكردستاني يتحملون المسؤولية”.
ولأن تركيا ترى أنها على أعتاب مرحلة جديدة بشأن ملف المتمردين الأكراد، فإنها قد تسعى إلى مواجهة الدعم الأمريكي المتزايد لتلك التنظيمات، من خلال ممارسة مزيد من الضغط على الإدارة الأمريكية في هذا الجانب. ولعل الإصرار التركي على إتمام صفقة صواريخ إس-400، بالإضافة إلى ضمان مصادر تسليح أخرى خارج إطار حلف الأطلسي والمصدر الأمريكي، هو بهدف الضغط على واشنطن في ملف دعم أكراد شمال سوريا.
محددات مستقبل العلاقة بين البلدين
هناك عدد من المحددات التي ترجح مدى إمكانية الطرفين؛ التركي والأمريكي، إدارة الملفات الشائكة بينهما بدبلوماسية تفاوضية تؤدي إلى حلول مرضية لكلا الطرفين، ولعل من أهم هذه المحددات:
1. قنوات الاتصال بين البلدين
إذا تمكن البلدان من إيجاد قنوات اتصال نشطة لتحقيق التعاون بينهما، ولا سيما في الجانب الأمني والتوازن الإقليمي لمواجهه الوجود الروسي الإيراني في المنطقة، فإن ذلك يرجح عودة علاقة التنسيق بين واشنطن وأنقرة.
2. قدرة الطرفين على إيجاد مخرج لملفي إس-400 وإف-35
إن البدء بمفاوضات ثنائية تؤدي إلى منح تركيا إمكانية الحصول على منظومة طائرات إف-35، التي استثمرت تركيا في برنامجها 1.4 مليار دولار، قد يحمس الجانب التركي على عدم التوجه نحو صفقات سلاح مستقبلية مع روسيا، وإمكانية عدم تفعيل منظومة إس-400، خاصة إذا ارتبط ملف صفقات السلاح بتفاوض على قضية الدعم الأمريكي للمتمردين الأكراد في شمال سوريا.
فمن الصعوبة أن تتخلى تركيا عن أي صفقات تقوي منظومتها الدفاعية في الوقت الحالي؛ نظراً للأخطار المحيطة بها، ولارتفاع مستوى التأهب على حدودها، وسعيها للحفاظ على أمنها ومصالحها في المنطقة.
3. طبيعة إعادة حلف الناتو
تركيا إحدى ركائز حلف الناتو، وتؤدي دوراً مهماً في حماية أعضائه الأوروبيين من البوابة الجنوبية الشرقية، وفي حال قررت الولايات المتحدة إحياء دور حلف الأطلسي، فإن قنوات الاتصال قد تزداد بين الطرفين، وهذا قد يمنح الطرفين فرصة الجلوس على طاولة المفاوضات، والبدء بمعالجة الملفات العالقة بينهما.
4. وضع المتمردين الأكراد
إن عدم الثقة بين البلدين فيما يتعلق بالملف الكردي بلغ مستوى غير مسبوق منذ الولاية الثانية لأوباما 2012-2016، ولذلك إذا تمكن الطرفان من التفاوض على هذا الملف، وإيجاد حل يرضي الطرف التركي ويمكنه من حماية أمنه من الهجمات الكردية، فإن ذلك سيشكل دافعاً قوياً لعودة علاقة التعاون والتنسيق بينهما.
خاتمة
بلغت العلاقات الأمريكية التركية مستوى بالغاً من التعقيد مؤخراً، وتراكمت الملفات الشائكة نتيجة الاختلاف المتزايد في المنظور الاستراتيجي لكل منهما، وهو ما ينبئ بصعوبة معالجة المشاكل بدبلوماسية ناجحة، ولكن هذا لا يعني أن تتجه الأمور نحو التصعيد بينهما، وذلك بسبب رغبة واشنطن في إبقاء علاقتها مع حليف قوي يضمن جزءاً من مصالحها في منطقة الشرق الأوسط وما حولها.
قد تتجه الإدارة الجديدة إلى البراغماتية في علاقتها مع أنقرة، فتعمل على تفعيل دورها في قيادة حلف الناتو وإعادة تموضع الحلف بالقيام بدوره في المنطقة بالإضافة إلى إقرار واشنطن لدور تركيا المحوري، وهو ما قد يحفز أنقرة على تقديم تنازلات في ملف صواريخ إس 400 وملفات أخرى داخلية وإقليمية.
ولأن حكومتي البلدين كل منهما بحاجة إلى الأخرى، وليستا على استعداد لخسارة كل سبل التعاون بينهما، فقد تظهر مؤشرات على تحسين العلاقات الثنائية بينهما، إذ يبدأ الطرفان معالجة الملفات البسيطة الشائكة بينهما، التي تدفع إلى المضي في حلحلة القضايا الجوهرية بين البلدين، ولكن خطوات تحسين العلاقات قد تأخذ وقتاً يطول عن الولاية الرئاسية لجو بايدن في حكم الولايات المتحدة الأمريكية.