أثارت تصريحات وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي بشأن الحرب في اليمن أزمة دبلوماسية بين عدد من دول الخليج ولبنان. حيث وصف في تصريحاته تلك الحرب في اليمن بأنها “حرب عبثية”، ورأى أن الحوثيين “يدافعون عن أنفسهم”. وقد اعترض مجلس التعاون الخليجي على هذه التصريحات، ووصفها بأنها “تعكس فهماً قاصراً وقراءة سطحية للأحداث في اليمن”. في حين رأى حزب الله اللبناني أنها تصريحات “مشرفة وشجاعة”.
تأتي هذه التصريحات في ظل أزمة سياسية واقتصادية يعيشها لبنان. وبعد انفراجة جديدة بتشكيل الحكومة، التي تقول الرياض أن لا جدوى للتعامل معها في ظل هيمنة حزب الله على المشهد السياسي والعسكري في لبنان. وإشرافه على تدريب المقاتلين الحوثيين في اليمن، وإضراره بالأمن القومي الخليجي.
وعلى الرغم من أن تصريحات قرداحي كانت قبل تعيينه وزيراً في حكومة نجيب ميقاتي، وأن الحكومة اللبنانية رفضت هذه التصريحات وعدَّتْها موقفاً لا يمثل الحكومة. فإن ذلك لم يخفف من تصاعد الأزمة بين المملكة العربية السعودية والجمهورية اللبنانية، وانعكاساتها المباشرة سياسياً واقتصادياً على الشأن الخليجي واللبناني.
يبحث تقدير الموقف في الأسباب غير المباشرة للأزمة، وتداعياتها على العلاقات الخليجية اللبنانية وعلى الواقع اللبناني الداخلي، والسيناريوهات المستقبلية للحل.
الأسباب المباشرة وغير المباشرة للأزمة الخليجية اللبنانية
تصاعدت الأزمة بين دول الخليج ولبنان إثر تصريحات جورج قرداحي حول الحرب في اليمن. هذه التصريحات استفزت الدول المشاركة في التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن. وتفتقد- بحسب بعضهم- الحنكة السياسية، لأنها لم تتعاطَ مع المشهد السياسي والعسكري في اليمن كما هو، باعتبار جماعة الحوثي جزءاً من المشكلة التي وصل إليها اليمن، ولم تعمل على احتواء الأزمة التي ترتبت على هذه التصريحات. في حين أن الأزمة في طبيعتها أكبر من تصريحات إعلامية عابرة. وهذا ما يدعونا للوقوف أمام الأسباب غير المباشرة لهذه الأزمة، والتي من أهمها:
أولاً: سيطرة حزب الله على المشهد السياسي في لبنان
تشهد العلاقات السعودية اللبنانية فتوراً منذ سنوات، نتيجة هيمنة حزب الله على الوضع السياسي في لبنان، وتحكمه مع حلفائه في الحكومات المتعاقبة في لبنان، وسيطرتهم على أغلب الحكومة الحالية، وارتباط حزب الله علناً بالمحور الإيراني.
وقد حاولت المملكة احتواء الوضع السياسي في لبنان، ودعم الحكومة اللبنانية، لكن سيطرة حزب الله على المشهد، وتبنيه سياسات معادية للخليج، غيَّر سياسة المملكة في التعامل مع الحالة اللبنانية، وقد برز التحول السعودي أكثر منذ انتخاب الجنرال ميشال عون، الذي يعد حليفاً لحزب الله، واستطاع خلال الفترة الماضية احتواء الغضب الشعبي منذ عام 2019، بالإضافة لتشكيل حكومة ميقاتي التي تعدها السعودية رهينة لحزب الله، وهذا ما أكده وزير الخارجية السعودية فيصل بن فرحان بقوله: إن “الأزمة مع لبنان تعود أصولها إلى هيمنة حزب الله على الدولة اللبنانية”.
جذور الأزمة لها بعد إقليمي ودولي، يتعلق بطبيعة العلاقة بين السعودية وإيران، وعلاقة إيران بالإقليم والمجتمع الدولي، وعلى الرغم من محاولة الحكومة اللبنانية إقناع الوزير بالاستقالة، باعتبارها قد تمثل مدخلاً لحل الأزمة، فإن إصرار حزب الله على موقفه، وتأييد ما قام به “قرداحي”، عقَّد الأزمة أكثر.
ثانياً: الاتهامات السعودية للبنان بتصدير المخدرات
في أبريل/ نيسان 2021، أعلنت حكومة المملكة إحباط تهريب أكثر من مليوني قرص مخدر مخبأة في شحنات الفواكه اللبنانية، وفي يونيو/حزيران أعلنت السعودية إحباط عملية تهريب أكثر من 14 مليون قرص مخدر داخل شحنة ألواح حديد قادمة من لبنان، كما أعلن لبنان في الشهر نفسه إحباط عملية تهريب جديدة لحبوب “الكبتاجون” المخدرة إلى السعودية.
تتهم المملكة العربية السعودية حزبَ الله بالوقوف وراء ذلك، وقد أعلنت، في أبريل/نيسان، منع استيراد الفواكه من لبنان، ويأتي هذا المنع في ظل سعي المملكة لسن قوانين رادعة للاتجار بالمخدرات ومعاقبة المهربين، لكن هذه العقوبات كان لها تأثير سلبي كبير في المجتمع اللبناني.
ثالثاً: المفاوضات السعودية الإيرانية
يباشر الجانب الإيراني مستويين من المفاوضات؛ مفاوضات مع المجتمع الدولي بخصوص الملف الإيراني، وأخرى مع السعودية بخصوص الملفات الإقليمية، ويظهر أن هناك حالة من الصراع وعدم التوافق على عدد من الملفات، وهذا ما كشف عنه المتحدث باسم لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، محمود عباس زاده، إذ ذكر أن مؤشرات رغبة السعودية بترميم العلاقات مع إيران “أخذت تتلاشى”، لهذا تضغط إيران بالتصعيد الحوثي في اليمن، في حين تمارس السعودية، ومن خلفها الولايات المتحدة الأمريكية، الضغط بالورقة اللبنانية، للحد من هيمنة حزب الله على المشهد اللبناني.
المفاوضات بين السعودية وإيران لم تحقق إلى الآن تقدماً كبيراً، بحسب تصريحات الطرفين. ويستعد المتفاوضون لجولة خامسة، والضغط السعودي في لبنان ربما يصب في إطار الضغط على إيران، لإيقاف التصعيد الحوثي في اليمن من جهة. وتقديم تنازلات في المفاوضات التي تجريها مع السعودية من جهة أخرى. وهذا قد يصب أيضاً في مصلحة مفاوضات اتفاق النووي.
تداعيات الأزمة الخليجية اللبنانية
العلاقات الخليجية اللبنانية لم تصل إلى هذا المستوى من التراجع من قبل. وتعد تصريحات “قرداحي” كاشفة لحالة الانهيار في العلاقة. وكانت لها تداعياتها السياسية والاقتصادية العميقة، التي ربما لن تقف عند هذا الحد.
أولاً: التداعيات السياسية للأزمة الخليجية اللبنانية
بدا الموقف الخليجي موحداً تجاه لبنان بشأن تصريحات الوزير “قرداحي”. التي عدتها المملكة “تحيزاً واضحاً لميليشيا الحوثي الإرهابية المهددة لأمن واستقرار المنطقة”. وقد باشرت السعوديّة والإمارات والبحرين والكويت بسحب سفرائها من بيروت. وطلبت الرياض والكويت والمنامة من السفراء اللبنانيين مغادرة أراضيها خلال 48 ساعة.
في حين اقتصر الموقف القطري التنديد السياسي والسعي لحل الأزمة، ووصف التصريحات بـ”غير المسؤولة”، ودعا الحكومة اللبنانية إلى “اتخاذ الإجراءات اللازمة بسبب تصريحات قرداحي بشكل عاجل وحاسم، لتهدئة الأوضاع وللمسارعة في رأب الصدع بين الأشقاء”. كما دعت سلطنة عمان الجميع إلى “ضبط النفس، والعمل على تجنب التصعيد. ومعالجة الخلافات عبر الحوار والتفاهم، بما يحفظ للدول وشعوبها الشقيقة مصالحها العليا في الأمن والاستقرار والتعاون القائم على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية”. وهي مواقف تسعى للعب دور الوسيط لحل الأزمة.
تأتي هذه الأزمة بعد أقل من شهرين من تعيين حكومة ميقاتي. التي تأخر تشكيلها أكثر من عام، وكان اللبنانيون يأملون منها أن تخفف من حالة الاستقطاب الداخلي والخارجي، وأن تبحث عن مخارج للوضع المعيشي. إلا أن هذه الحكومة شهدت منذ بدايتها أزمة دبلوماسية وعزلة خليجية، قد تؤثر سلباً في قدرات الحكومة على تحمل تبعات الأزمة. وقد تؤثر كذلك في تماسك الحكومة واستمراريتها، وهي ما بين خيار البقاء عاجزة، أو الانهيار والبحث عن مخارج جديدة.
من المتوقع كذلك أن يكون لهذه الأزمة تداعيات على المفاوضات الإيرانية السعودية. حيث كان الملف اليمني سابقاً على رأس ملفات التفاوض. ومن المتوقع أن يدخل الملف اللبناني بقوة في الجولة القادمة من المفاوضات. وقد يكون سبباً في تأخر أمد هذه المفاوضات أو إفشالها.
ثانياً: التداعيات الاقتصادية وأثرها في الشعب اللبناني
يعاني لبنان أزمة سياسية خلفتها الحالة الطائفية المتجذرة، ولها انعكاساتها المباشرة على الجانب الاقتصادي والتنموي في البلد، حيث صنف البنك الدولي الحالة الاقتصادية في لبنان من بين الأسوأ في العالم منذ عام 1850م، وزادت تداعيات كورونا وانفجار مرفأ بيروت في تأزيم الوضع الاقتصادي اللبناني أكثر، وقد خسرت الليرة اللبنانية المربوطة بالدولار الأمريكي أكثر من 90% من قيمتها منذ عام 2019، وهذا ما أضعف القوة الشرائية للمواطنين.
وكان لبنان يعول على الدعم السعودي. ويسعى لإعادة ترتيب علاقته مع المملكة، وتفادي الحظر الجزئي الذي أعلنته السعودية في أبريل/ نيسان على المنتجات الزراعية والغذائية اللبنانية. لكن يظهر أن هيمنة حزب الله على المشهد السياسي اضطرت السعودية إلى مراجعة موقفها من لبنان وزيادة الحظر، وهو ما قد يتسبب في كارثة اقتصادية على المواطن اللبناني.
وقد سعت الشركات اللبنانية للاستفادة من القدرة التنافسية بعد انهيار العملة، وكانت تخطط لرفع قيمة الصادرات للسعودية من 240 مليون دولار عام 2020 إلى 600 مليون دولار حالياً، وبتوقف الصادرات للسعودية ستتضرر تلك الشركات المتعاقدة مع الدول الخليجية، وقد أعلنت السعودية الحظر الشامل على جميع الواردات من لبنان، والتي تشمل الذهب والحلي والألمنيوم والماكينات والصابون والدهان.
وفي حال صعدت السعودية من عقوباتها ضد لبنان، وحاولت وقف التحويلات اللبنانية من السعودية ودول الخليج الأخرى. فإن ذلك قد يؤدي إلى انهيار اقتصادي حاد، حيث يقدر المبلغ السنوي لهذه الحوالات بأربعة مليارات دولار، وهذا ما سيؤثر في اللبنانيين الذين وصل 80% منهم إلى خط الفقر.
هذا الوضع يمكن أن يتفاقم أكثر نتيجة استمرار تداعيات الأزمة الخليجية اللبنانية، وتضرر المصانع والشركات من الحظر الشامل للواردات، وبحسب إحصاءات مركز التجارة الدولي (ITC)فإن قيمة الصادرات اللبنانية عام 2020 “بلغت أكثر من 3.8 مليارات دولار، منها 1.04 مليار دولار إلى دول مجلس التعاون الخليجي، ما نسبته 27% من إجمالي الصادرات اللبنانية”، وفي حال فرض أي إجراءات جديدة تتعلق بالحوالات أو العمالة اللبنانية في دول الخليج أو السياحة الخليجية في لبنان، فمن المؤكد أن الأمر سيزداد سوء.
مستقبل الأزمة الخليجية اللبنانية
تبذل الجامعة العربية ودولة قطر جهوداً دبلوماسية لحل الأزمة الخليجية اللبنانية، لكن يبدو أن الحل الكلي سيكون مستبعَداً نتيجة تعقيدات الملف اللبناني، وتتراوح سيناريوهات المستقبل ما بين استمرار الأزمة أو التخفيف من حدتها.
السيناريو الأول: استمرار الأزمة
يفترض هذا السيناريو استمرار الأزمة، وتصاعد انعكاساتها السياسية والدبلوماسية، وعجز الجهات الوسيطة عن التوصل إلى مقاربات مرضية للطرفين، ويؤيد هذا السيناريو:
1. تجذر الأزمة وتشابكها مع أكثر من ملف إقليمي ودولي.
2. التباينات الداخلية في لبنان، وتعقيدات نظام المحاصصة.
3. تعنت حزب الله واستقواؤه بإيران، وإصرار الحزب على تأييد موقف “قرداحي” واعتباره موقفاً قوياً وشجاعاً، وتمسك قرداحي بعدم الاستقالة.
4. التمسك السعودي بعدم جدوى دعم الحكومة الحالية في ظل هيمنة حزب الله.
5. الحرب بالوكالة التي تقودها قوى إقليمية ودولية واستخدام الأوراق للضغط والضغط المضاد.
ويضعف هذا السيناريو أن الاستمرار في تصاعد الأزمة معناه ذهاب لبنان إلى المجهول. وزيادة تأزيم الوضع السياسي والاقتصادي، وهذا ربما لن يسمح بتفاقمه المجتمع الدولي، نتيجة الكلفة الإنسانية المترتبة على ذلك.
السيناريو الثاني: الحلول الجزئية
يتوقع هذا السيناريو إمكانية التوصل إلى مقاربات جزئية للأزمة الخليجية اللبنانية، في حدود التهدئة والتخفيف من العقوبات الاقتصادية، ويدعم هذا السيناريو:
1. الموقف الخليجي الذي على ما يبدو أبقى أملاً لإعادة التواصل من خلال قطر، ويمكن أن تنضم لها سلطنة عمان، ليعملا على التهدئة.
2. الجهود الإقليمية لحل الأزمة، وعلى رأسها جهود الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية حسام زكي، وهي وإن كانت ضعيفة فقد تحرك الملف.
3. جهود رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي على هامش قمة المناخ في غلاسكو في أسكتلندا، ولقائه بعدد من قادة الدول العربية والغربية، وحثهم على التوسط بين الرياض وبيروت.
4. الوضع الكارثي للبنان الذي لا يتحمل أزمة من هذا النوع والتلميحات الخليجية بزيادة الضغط.
ويضعف هذا السيناريو هيمنة حزب الله على المشهد السياسي والعسكري في لبنان. وتحكمه في مآلات الأوضاع، والتعقيدات السياسية في المشهد اللبناني، وتداخلاته مع ملفات أخرى والذي يصعب إمكانية التقارب.
الخاتمة
الأزمة الخليجية اللبنانية لم تصل إلى هذا المستوى من التعقيد في السنوات الماضية. ومدخلات الأزمة أعقد من مجرد تصريحات لوزير قبل توليه الوزارة. ولعل ممكنات الحل المتاحة لن تصل إلى حد إذابة كل نقاط الخلاف. نظراً للارتباطات الإقليمية والدولية بالأزمة، وتعنت حزب الله ومن خلفه إيران. لكن قد يتم التوصل إلى حلول جزئية في حال استقالة الوزير والاعتذار. وهذه الحلول لن تنهي المشكلة بقدر ما قد تؤدي إلى تخفيف الإجراءات، تجنباً للانهيار المأساوي للأوضاع اللبنانية. وتضمن بقاء الضغط على الأقل في انتظار انفراجة قد تأتي بها الانتخابات القادمة يتم عبرها تغيير الوضع السياسي في لبنان بحكومة جديدة أقل قرباً من حزب الله. أو توصل المفاوضات الإقليمية والدولية مع إيران إلى مقاربات جديدة.