لا تزال آثار الأزمة اللبنانية- الخليجية سارية المفاعيل، وإن بوتيرة أقل حدة، على الرغم من استقالة جورج قرداحي من منصبه وزيراً للإعلام في الحكومة اللبنانية في 3 ديسمبر/ كانون الأول. قرداحي الذي صرح في أغسطس/آب الماضي خلال برنامج “برلمان شعب” بأن حرب اليمن حرب عبثية، وبأن جماعة الحوثي في موقع الدفاع عن النفس[1]، كان قد تمسك بموقفه وامتنع عن الاعتذار أو الاستقالة؛ بذريعة أنه لم يخطئ، وأن تصريحاته تلك كانت قبل توزيره في حكومة نجيب ميقاتي، وأن استقالته تقدح بسيادة لبنان وكرامة اللبنانيين، وأن ليس لأحد أن يفرض على اللبنانيين قراراً سيادياً كهذا[2]، ثم ما لبث أن تنازل أمام وساطة الرئيس الفرنسي ماكرون والإيعازات الفرنسية لميقاتي بضرورة استقالته كبداية لحل الأزمة[3].
استقالة “سيادية” بدفع فرنسي وتمرير إيراني
استقالة قرداحي (السيادية) جاءت بعد قيام مسؤولين فرنسيين، بالتنسيق مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، بإجراء اتصالات مع مسؤولين لبنانيين شملت المعاون السياسي لأمين عام “حزب الله” حسين خليل، واستكملت باتصال أجراه “ماكرون” مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي[4].
هذه الاستقالة المتأخرة، التي جاءت إثر دفع فرنسي وتمرير إيراني، أطاحت بكل الشعارات السيادية التي رفعها قرداحي، لتثير موجة من التساؤلات لدى شريحة واسعة من اللبنانيين؛ فما دام أنه سيلجأ إلى الاستقالة أولاً أو آخراً فلماذا كل هذا التأخير وتعريض مصالح آلاف اللبنانيين لهواجس أثارتها الشكوك والشائعات حول قرار خليجي محتمل بترحيل اللبنانيين العاملين في الخليج؟ وما دام قراره سيادياً فلماذا تأتي الاستقالة تبعاً لرغبات ماكرون وإقرار (الحلفاء) في الداخل اللبناني؟ ثم أكان قرار (حلفاء) قرداحي في الداخل اللبناني قراراً لبنانياً صرفاً مستقلاً عن الأجندات الإقليمية الخارجية، أم أنه كان في حقيقة الأمر رهن إشارة من وزّره وبيده مقاليد ترشيحه للنيابة من عدمه؟
القرار اللبناني المختطف
إن المشهد اللبناني بتعقيداته المختلفة وأزماته المتتابعة كفيل بإسقاط جميع الشعارات السيادية التي يرفعها طرفا النزاع في لبنان: حزب الله وحلفاؤه من جهة، ومعارضو الحزب من جهة أخرى. فلا حزب الله يتحرك بقراره السيادي اللبناني الخاص المستقل عن الأجندة الإيرانية التوسعية، وهذا واضح جلي تبعاً لمفهوم الولاية والإمامة التي يعتقدها الحزب، ومرجعيته في ذلك إيران، وتؤكده ممارساته على أرض الواقع في لبنان والإقليم المشتعل، ولا معارضو الحزب- بمعظمهم- يملكون أجندة وطنية خاصة يتحركون بموجبها، بل حتى بهاء الحريري حين يريد اليوم دخول المشهد اللبناني بصفة معارض للحزب وسياساته فإنه يدخله من البوابة الأمريكية طارقاً أبواب البيت الأبيض ومجلس الشيوخ الأمريكي[5].
لا شيء بالمجان
إن استقالة قرداحي التي ألبسها لبوساً سيادياً، لم تكن قط بعيدة عن سوق المساومات السياسية اللبنانية، حيث إن مصادر حكومية أبدت مخاوفها من كون الاستقالة جاءت في إطار صفقة مبرمة بين رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، صهر رئيس الجمهورية ميشال عون، عنوانها “استقالة قرداحي مقابل كف يد القاضي البيطار عن ملاحقة الرؤساء والوزراء”؛ إذ لا يزال قاضي التحقيق في ملف انفجار مرفأ بيروت، طارق البيطار، مصراً على استكمال ما بدأه، حيث أعاد مذكّرة التوقيف الغيابيّة الصادرة بحق وزير المالية السابق علي حسن خليل إلى النيابة العامة التمييزية، وأمر بتنفيذها فورياً[6]، ومن ثم فمن المتوقع أن يعيد فتح باب المواجهة بين الفرقاء حول ملف المرفأ خلال الأيام القادمة.
هل خُدع حزب الله؟
بعيداً عن دراما قرداحي فإن الاستقالة لم تكن لتتم لولا موافقة حزب الله، المتحكم الأقوى في المشهد اللبناني، خاصة أن قرداحي الموالي تماماً لحلف الممانعة والممجد لأمين عام الحزب حسن نصر الله والمرتهن للوزير السابق سليمان فرنجية- صديق بشار الأسد الشخصي- كان قد وصل إلى الوزارة بإقرار الحزب، ويطمح حالياً إلى الفوز بمقعد نيابي بدعم من الحزب في الانتخابات النيابية المقبلة، كل ذلك يؤكد حقيقة تمرير حزب الله، ومن ورائه إيران، لهذه الاستقالة في إطار اتفاق مع الفرنسيين. لكن على ما يبدو فإن الحزب فوجئ بما تكشفت عنه زيارة ماكرون لجدة، حيث تبنى الأخير الطرح السعودي المتضمن شروطاً تبدأ بالقرار الدولي 1559[7] وتطول حزب الله مباشرة[8]، فأين ذهبت الضمانات الفرنسية لإيران وحزب الله؟ وهل يسعى ماكرون لتكرار ما فشل به المجتمع الدولي من قبل فيما يتعلق بسلاح حزب الله؟ أم إن ماكرون مرر الطرح الفرنسي لإنجاح زيارته التي يحتاج إليها هو قبل كل شيء؟
الموقف السعودي: تراكمات مستفزة
يرى البعض أن موقف السعودية مبالغ به، إذ إن تصريحات قرداحي جاءت قبل توزيره، بل حتى قبل معرفته بتوزيره، وهو ما يضع الموقف السعودي في خانة الشبهة بالنسبة لهؤلاء، لكن البعض الآخر يراه موقفاً طبيعياً أفرزته تراكمات السنين الطويلة من عبث حزب الله في شبه الجزيرة العربية، سواء من خلال “حزب الله الحجاز”، أو من خلال مستشاري الحزب العسكريين الذين يقدمون الدعم والاستشارة لجماعة الحوثي في اليمن، حيث تخوض المملكة حربها. كما أن المسيرات المفخخة التي تستهدف الأراضي السعودية ليست من بنات أفكار الحوثي، بل حملتها له شحنات السلاح الإيرانية، وشغلها خبراء الحرس الثوري وحزب الله، لذا يبدو أن الموقف السعودي إنما جاء في إطار الصراع الدائر في المنطقة بين دول الخليج من جهة وإيران وأذرعها من جهة أخرى.
وعلى كل حال، لا يبدو أن استجابة السعودية لمبادرة ماكرون تعني عودة المياه إلى مجاريها، خاصة مع استمرار انخراط الحزب في حرب اليمن، واستفزازاته التي يطلقها باستمرار من الداخل اللبناني.
استحالة التطبيق
بعيداً عن المرتجى من كل ما يحدث، لا يبدو أن ماكرون نفسه مقتنع بإمكانية تطبيق القرار 1559 الذي يستهدف سلاح حزب الله في الدرجة الأولى، والذي فشل في تحقيقه المجتمع الدولي مراراً وتكراراً، فالحزب الذي غامر في 7 مايو/أيار 2008 بكل مكتسباته الشعبية وصورته الإعلامية التي صنعها على مر سنوات؛ حفاظاً على سلاحه وأنظمته الأمنية وخطوطه اللوجستية، لا يمكن أن يسمح بتكرار المحاولة اليوم وقد أصبح أكثر نفوذاً وسطوة، وإذ يدرك ماكرون هذه الحقيقة فإنه على ما يبدو يحاول العودة بفرنسا إلى المشهد في لبنان، خاصة بعد فشل مبادرته التي أطلقها عقب انفجار مرفأ بيروت.
إن كل ما يحكى عن مبادرات سياسية لحل الأزمة اللبنانية والخروج باللبنانيين من الواقع البائس الذي يعيشون فيه، يبقى أسير سياسات حزب الله الخارجية وتعلقه بالأجندة الإيرانية التوسعية، وتقديمه منطق التغلب والهيمنة والاحتواء على التفاهم والتعاون والبناء، وإذ يبدو أن هذا الأمر بعيد وفق المعطيات الحالية فإن الأزمة مستمرة، وما أزمة قرداحي إلا جولة تعقبها جولات، ضحيتها اللبنانيون المسحوقون تحت عجلة الفساد والقمع والتهجير.
[1] برلمان شعب 2 : إستجواب جورج قرداحي
[2] مؤتمر صحفي لجورج قرداحي في 27 أكتوبر
[3] تصريحات جورج قرداحي لقناة الجديد اللبنانية عقب استقالته
[4] صحيفة المدن الإلكترونية 07\ 12\ 2021
[5] How CT Group is helping Bahaa Hariri’s anti-Hezbollah drive in Washington- Intelligence Online, 08\12\2021
[6] القاضي البيطار طلب من الأجهزة الأمنية تنفيذ مذكرة توقيف النائب علي حسن خليل بشكل فوري