صالون

مسارات-الصراع-في-إثيوبيا

مسارات الصراع في إثيوبيا .. من عملية “إنفاذ القانون” إلى حافة الحرب الأهلية

عباس محمد صالح عباس

|

2022-01-03

|

طباعة

|

مشاركة

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on telegram
Share on email
Share on pinterest
عباس محمد صالح عباس

|

2022-01-03

|

طباعة

|

مشاركة

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on telegram
Share on email
Share on pinterest
عباس محمد صالح عباس

|

2022-01-03
طباعة

مشاركة

|

Share on facebook
Share on twitter
Share on whatsapp
Share on telegram
Share on email
Share on pinterest

بعد مرور أكثر من 13 شهراً على اندلاع الصراع في إقليم تيغراي في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 2020، تزايدت المخاوف من انزلاق إثيوبيا إلى حرب أهلية شاملة، ومن ثم احتمال تفكك البلاد؛ خاصة بعد اقتراب قوات المعارضة المسلحة من العاصمة (أديس أبابا)؛ وذلك بعد نسج قوات دفاع تيغراي تحالفاً عسكرياً مع مسلحي جيش تحرير الأورومو (أوناق شاني)[1]، وفي ظل استمرار رفض أطراف النزاع الدخول في عملية تفاوض بدون شروط مسبقة.

علاوة على ذلك، تزايد الاهتمام الدولي بتداعيات هذا الصراع، ولا سيما عقب تواتر تقارير لمنظمات دولية عن مزاعم بوقوع انتهاكات جسيمة من جميع الأطراف المتورطة في الصراع، وتحذيرات من وقوع مجاعة واسعة النطاق في ظل استمرار الخلاف بشأن وصول المساعدات إلى المحتاجين في الإقليم وفي بقية المناطق التي تمدد إليها الصراع لاحقاً، وتحديداً في إقليمي عفر وأمهرا.

خلفيات الصِّراع في إثيوبيا

بدأ الصراع بين الطرفين؛ جبهة تحرير شعب تيغراي، وحكومة رئيس الوزراء آبي أحمد، عقب وصول آبي أحمد إلى السلطة في أبريل/نيسان 2018، حيث قام بعمليات تطهير واسعة النطاق استهدفت عناصر جبهة تحرير تيغراي من جهاز الدولة والائتلاف الحاكم (الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا) آنذاك[2]، وهو ما دفع قيادات الجبهة لمغادرة العاصمة إلى “مقلي”، عاصمة إقليمهم، ومن هناك تواصلت الحرب الباردة بين الطرفين، خاصة من خلال حرب التصريحات والتصريحات المضادة. وكانت جبهة تيغراي تعد بمنزلة “الدولة العميقة”[3] التي تهدد مشروع الانتقال السياسي الذي شرع فيه رئيس الوزراء الإصلاحي آبي أحمد.

وقد ألقى هذا النزاع بظلال سلبية لا على علاقاتها الدولية فقط وإنما أيضاً على محيطها الإقليمي[4]، ولا سيما بعد أن كشفت تقارير عن مشاركة الجيش الإريتري في هذا النزاع. كذلك توترت العلاقات مع السودان المجاور عقب تقدم الجيش السوداني للسيطرة على مثلث “الفشقة”، وطرد الميليشيات الإثيوبية التي كانت تشن هجمات على مواقعه في هذه المنطقة، إذ اعتبرت الدوائر الإثيوبية هذا التحرك “طعنة” لها في الظهر، حين كانت قواتها منخرطة في الصراع مع قوات تيغراي. كما فرّ آلاف اللاجئين من تيغراي إلى داخل الأراضي السودانية نتيجة لهذا الصراع.

وفي الوقت نفسه، توترت العلاقات بين حكومة آبي أحمد والمجتمع الدولي كثيراً، وتحديداً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، حيث أبدت أديس أبابا مقاومة شرسة لجميع الضغوط التي ظلت تمارس عليها للقبول بالأطروحات الدولية لحل هذا النزاع، والتي عدتها تدخلاً في شؤونها الداخلية.

في حين حذّر جيفري فيلتمان، المبعوث الأمريكي الخاص للقرن الإفريقي، من أن الحرب الأهلية في إثيوبيا قد تخلق “نموذجاً شبيهاً بسورية”[5].

أعراض دولة ما بعد الاستعمار

يُرجع كثير من الأكاديميين جذور الصراعات القاتلة في مختلف دول القارة الإفريقية إلى الإرث الاستعماريّ، لا سيّما تحديات بناء الدول، وكيف أنّ السياسات الاستعمارية قد بذرت بذور التنافر بين المكونات المحلية، وهو ما جعل مشروع بناء دولة وطنية على يد القادة الوطنيين في مراحل ما بعد الاستعمار على الدوام مشروعاً متعثراً؛ أي سرعان ما تنزلق هذه البلدان في دوامة من النزاعات المسلحة والصراعات السياسية المدمرة.

عطفاً على ما سبق، ترسّخ في الذاكرة الجمعية للإثيوبيين، نخباً وشعوباً، نوعٌ من التفاخر والتباهي بأن بلادهم هي البلد الإفريقي الوحيد الذي لم يتعرض لتجربة الاستعمار الغربي[6]، وقد أوجد هذا الشعور نفوراً فطرياً من التدخلات الأجنبية، كما رسّخ أيضاً لنظرية “المؤامرة” بشكل مبالغ فيه. في هذا الصدد، رأت الدوائر الحاكمة في إثيوبيا أن نزاع تيغراي لا يعدو كونه “مؤامرة غربية- أمريكية” لإعادة تيغراي إلى السلطة مرة أخرى، وأن هدف جبهة تحرير تيغراي هو تفكيك البلاد خدمة لأجندة خارجية، ولذات السبب تجد الجبهة أيضاً الدعم من السودان ومصر.

كذلك غدا هذا الشعور الوطني ورقةً مهمة في يد الحكومة الإثيوبية لتعبئة الرأي العام المحلي، فضلاً عن الجاليات والشتات بالخارج، وأيضاً سلاحاً في مواجهة الضغوط الغربية بسبب استمرار تداعيات النزاع في إقليم تيغراي.

بشكل عام، لم تختلف كثيراً التجارب السياسية على مرّ الأنظمة والحكومات المتعاقبة في إثيوبيا عن السمات العامة لدولة ما بعد الاستعمار في القارة الإفريقية من حيث الآتي:

أولاً: غياب الاستقرار السياسي، والفشل في تأسيس نظام حكم وطني يجمع فسيفساء القوميات والشعوب؛ أي غياب المشروع الوطني الجامع الذي يحقق الاندماج الوطني.

ثانياً: تكرار الصراع والنزاعات المسلحة، أو بالأحرى دورات من الحروب المتكررة، وهو ما فاقم من أشكال الأزمات والصراعات السياسية.

ثالثاً: انعدام الديمقراطية والحكم الرشيد بما يساعد على تسوية الخلافات السياسية بالوسائل السلمية، وأيضاً كنتيجة مباشرة للعاملين السابقين.

عموماً، فإن اندلاع نزاع تيغراي يندرج في السجالات حول النموذج الأمثل لبناء الدولة. ومن هنا طرح تصاعد الصراع الحالي في إقليم تيغراي تساؤلات جدّية حول مستقبل الدولة الإثيوبية واحتمالات تفككها على غرار يوغسلافيا السابقة، والتداعيات المترتبة على ذلك على إقليم القرن الإفريقي الكبير.

خلاصة القول هنا- وكما أشرنا سابقاً- يمكن وصف نزاع تيغراي بأنه أحد تمظهرات الصراع على السلطة بوصفه أحد مظاهر الدولة الحديثة في إفريقيا، ويتجلى ذلك في التنافس بين عدد من الفاعلين من خلال تجارب أو محاولات، تسعى للتحكم في رسم مفردات مشروع بناء (أو إعادة بناء) الدولة. ويمثل هذا الصراع الذي انزلقت إليه إثيوبيا نموذجاً آخر لفشل مشروع بناء الدولة الأمة، واللجوء إلى خيار العنف السياسي بوصفه أقصر الطرق؛ إذ إن “الحرب تمثل فشل السياسة”[7]، بحسب أوليشيغون أوباسانجو، الممثل الأعلى للاتحاد الإفريقي في القرن الإفريقي والوسيط في هذا النزاع. فإثيوبيا الحالية هي نتاج تطور الإمبراطورية الحبشية التي كان قد تضمن توسع أراضيها ومن ثم مراحل رسم حدودها عمليات غزو وُصفت بـ”الاستعمار الداخلي”[8]، حيث أخضعت قوميات البلاد المختلفة لهيمنة نخبة الأمهرا.

من “الفيدرالية الإثنية” إلى “الفيدرالية الجغرافية”

في حقيقة الأمر، إن الصراع بين الحكومة الفيدرالية في أديس أبابا وحلفائها من جهة، وحكومة إقليم تيغراي (وحزبها الحاكم: جبهة تحرير تيغراي) من جهة أخرى، هو صراعٌ بين مشروعين سياسيين متنافرين بشدة هما: مشروع “الفيدرالية الإثنية”[9] الذي أسسته جبهة تيغراي وتدافع عنه، في مقابل مشروع حزب الازدهار الإثيوبي القائم على تـأسيس نظام مركزي.

تنظر جبهة تحرير تيغراي، التي أُسست عام 1975 بوصفها منظمة ماركسية كانت تسعى في نضالها ضد نظام “الدرق” (منقستو هايلي مريام: 1975- 1991)، إلى مشروع الفيدرالية الإثنية على أنه مكسب يضع حداً للقمع والاضطهاد العرقي الذي مارسه الأباطرة (الأمهرا) الذين تعاقبوا على حكم البلاد.

ونتيجة لذلك، قدمت جبهة تيغراي، عقب وصولها إلى السلطة عام 1991، مشروع “الفيدرالية الإثنية” بوصفها مشروعاً لبناء الدولة، ويعكس تتويجاً لنضالات القوميات المضطهدة بالبلاد. ومن هنا تعتبر الجبهة نفسها حالياً حامي هذا المشروع على الصعيد الوطني، الذي تنظر إليه أيضاً على أنه بمنزلة “جسر” يصل بينها وبين الآخرين.

ويجادل أنصار جبهة تيغراي أيضاً بأنّ هذا النظام (الفيدرالية الإثنية) هو الأقدر على أن يضع أغلال الاضطهاد والقمع عن القوميات والشعوب، كما يمنحها أيضاً أشكالاً واسعة من الحكم الذاتي تقوم على استعادة الهوية الذاتية.

وفي المقابل، يصوّر معارضو نظام الفيدرالية الإثنية، وتحديداً نخب الأمهرا، الذين يمثلون 26% من السكان، ذلك النظام على أنه مجرد نزعات قبلية وعشائرية لا تنجم عنها إلا الشرور والصراعات العرقية، ومن ثم يكمن الحل الناجع في بناء دولة مركزية على أنقاض هذا النظام السياسي الذي أرست قواعده تجربة جبهة تحرير شعب تيغراي.

إزاء قوة طرح مشروع الفيدرالية الإثنية سعى رئيس الوزراء، آبي أحمد، سعياً حثيثاً لفرض المشروع السياسي لحزبه الحاكم الجديد (حزب الازدهار الإثيوبي)، الذي يطلق عليه “مدمر” (وتعني باللغة الأمهرية: معاً أو التآزر)[10]؛ لكونه المشروع الوطني الذي ينقذ إثيوبيا من الصراعات، حيث ألغى، في 12 ديسمبر/كانون الأول 2019، الائتلاف الحاكم سابقاً (الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا). كما يأتي فوز الحزب الحاكم بالأغلبية في الانتخابات التي أجريت في يونيو/حزيران 2021، في سياق ترسيخ هذا المشروع المركزي.

فضلاً عن ذلك، وفي خضم الصراع المصيري بين أطراف هذين المشروعين، سعى مؤخراً الحزب الحاكم (حزب الازدهار الإثيوبي)، إلى طرح مقاربة لتهدئة الشعور القومي المتصاعد من خلال اتباع النموذج الجغرافي لا العرقي/ الإثني في إنشاء الأقاليم، على الرغم من أنّ برنامجه السياسي يقوم- في حقيقته – على إلغاء مشروع الفيدرالية الإثنية بالكامل، وهذا يعني – من جهة أخرى – إقراراً ضمنياً بصعوبة إلغاء نظام الفيدرالية الإثنية، أو على الأقل تجذُّره في الخطاب السياسي بالبلاد.

مقدمات التقسيم: طرح الكونفدرالية

هدفت العملية العسكرية[11] التي شنتها الحكومة الفيدرالية- وفق ما أشير إليه سابقاً- إلى إخضاع جبهة تحرير تيغراي وما تمثله من رمزية مركبة تشكل تهديداً للمشاريع السياسية لثلاثة أطراف هي: المشروع السياسي لرئيس الوزراء آبي أحمد، الذي يتطابق في كثير من جوانبه مع المشروع الثاني، وهو مشروع إقليم أمهرا، أو بالأحرى نخب الأمهرا، وكذلك مع المشروع الثالث وهو مشروع الرئيس الإريتري إسياس أفورقي.

عقب دحر ما تصفه بمشروع غزو إقليم تيغراي، رأت نخب تيغراي أنه لا مناص من التوصل إلى تسوية سياسية، لا تحافظ فحسب على الحكم الذاتي الذي ضمنه مشروع الفيدرالية الإثنية ودستور العام 1995، وإنما يجب أن تقوم أيضاً على كونفدرالية موسعة يمكن أن تضع وحدة البلاد على المحك، على أن تتضمن هذه التسوية الأهداف الآتية:

أولاً: إيجاد ترتيبات سياسية جديدة لا تعني- بالضرورة- أن تحكم نخبة تيغراي البلاد على المستوى الفيدرالية، ومن ثم إعادة إنتاج تجربتها كحزب حاكم مهيمن ضمن الائتلاف الحاكم للبلاد بين 1991 و2018، ولكنها تضمن بأن يكون إقليم تيغراي كياناً ذا علاقة كونفدرالية مع البلاد. كما أنه يجب تقوم هذه الترتيبات على المحافظة على نظام الفيدرالية الإثنية القائم حالياً مع تطويره إلى كونفدرالية لجميع الأقاليم.

ثانياً: توفير إطار أمني لا يوفر الأمن لشعب تيغراي في الوقت الراهن فحسب، وإنما أيضاً يضمن لهذا الشعب ألّا يتعرض مرة أخرى لتهديد وجودي، على نحو ما تلا ما أطلقت عليها عملية “فرض القانون” قبل أكثر من عام.

ثالثاً: أن تتضمن أي تسوية جديدة ترتيبات أمنية تمكن الإقليم (تيغراي) من الاحتفاظ بقوات أمنية خاصة به، مع تقييد تدخلات الأجهزة الأمنية التابعة للحكومة الفيدرالية في شؤون الإقليم.

توسيع الصراع: البحث عن مظلة سياسية

استناداً إلى تصريحات مسؤولي إقليم تيغراي، فإن استراتيجية نقل الحرب خارج حدود الإقليم من أقصى شمال البلاد صوب إقليمي عفر (شرقا) وأمهرا (جنوباً) إنما كانت بهدف كسر الحصار المطبق الذي فرضته الحكومة الفيدرالية على الإقليم، وحرمانه من كل أشكال الخدمات ووصول المساعدات، بجانب فرض منطقة عازلة توفر الأمن للإقليم وتمنع القوات “المعادية” له من شن الحرب عليه مجدداً. غير أنها هدفت أيضاً إلى خلق معطيات تساعد على إيجاد حلفاء على المستوى الوطني على قاعدة الدفاع عن نظام الفيدرالية الإثنية.

يبدو أن انسحاب القوات الحكومة وحلفائها من تيغراي، في 28 يونيو/حزيران الماضي، قد شجّع قادة تيغراي على المضي قدماً في استراتيجية توسيع الصراع لتحقيق أهداف أوسع؛ منها: العمل على الإطاحة بنظام آبي أحمد، ومساعدة حلفاء تيغراي على تولي السلطة الفيدرالية في أديس أبابا.

وفي هذا السياق، وفي إطار تخطيط جبهة تحرير تيغراي لملء الفراغ السياسي في مرحلة ما بعد إسقاط نظام آبي أحمد، خاصة بعد تقدمها العسكري في مناطق شمال ولو بإقليم أمهرا المتاخمة للعاصمة، وفي الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني، وقّعت 9 مجموعات على إعلان باسم “الجبهة المتحدة للقوى الفيدرالية والكونفدرالية الإثيوبية” حيث يضم الإعلان مجموعات يفترض أنها “تمثل التنوع العرقي” بالبلاد[12]. وقد كانت هذه الخطوة محاولة لإعادة إنتاج تجربة الائتلاف الذي جمَع مجموعات قومية عرقية، والذي حكم البلاد ما بين 1991 و2018، وعُرف باسم “الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا”، بوصفه مشروعاً أسس لنظام حكم سعى لاستيعاب جميع القوميات بالبلاد.

على ما يبدو فللوصول إلى هذا الهدف أعلنت حكومة إقليم تيغراي سحب قواتها من إقليمَي عفر وأمهرا “لإعطاء فرصة للسلام”[13]، واعتُبرت هذه الخطوة “فرصة نادرة للسلام في إثيوبيا”[14].

وقد وضع تقدم قوات تيغراي صوب العاصمة أديس أبابا، في أعقاب سيطرتها على المدينتين الاستراتيجيتين؛ دسي وكومبولتشا[15] على بعد نحو 400 كم شمال أديس أبابا، مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وضع مقدمات لرسم معادلات القوة والصراع لا في داخل إثيوبيا وإنما أيضاً في القرن الإفريقي الكبير. وإزاء ذلك أعلنت الحكومة الإثيوبية (2 نوفمبر/تشرين الثاني) فرض حالة الطوارئ في عموم البلاد، قبل أن تتمكن من وقف ذلك التقدم، ولا سيما بعد إعلان قوات تيغراي الانسحاب من تلك المناطق.

مزاعم انتهاكات حقوق الإنسان

منذ اندلاع هذا النزاع ثمّة تقارير لمنظمات حقوقية تحدثت عن وقوع انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان من الأطراف المتحاربة كافة. وفي خضّم هذا الجدل تبنى مجلس حقوق الإنسان[16]، في 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي، قراراً بشأن إنشاء آلية دولية مستقلة للتحقيق في تلك المزاعم. وسبق أن أجرت المفوضية السامية لحقوق الإنسان (التابعة للأمم المتحدة) تحقيقاً مشتركاً[17] مع المفوضية الإثيوبية لحقوق الإنسان توصل إلى استنتاجات مفادها أن كل الأطراف[18] اقترفت انتهاكات قد ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

وعلى ذات النحو، نشرت منظمة “العفو الدولية”[19]، في ديسمبر/كانون الأول 2021، تقريراً تحدثت فيه عن استمرار اقتراف القوات الأمنية التابعة لإقليمي أمهرا جرائم ضد المدنيين من عرقية التيغراي في مدينة “الحُمَره” (في مناطق غرب تيغراي بالقرب من الحدود مع السودان) المتنازع عليها بين إقليمي أمهرا وتيغراي.

أفرقة الصراع: صراع الهوية و “رواندا أخرى”

كذلك، بدا واضحاً أن هذا النزاع الأخير في إثيوبيا، ومنذ تفجره، قد اتخذ أشكالاً متعددة وشديدة التعقيد. وتحت وطأة الضغوط الدولية، خاصة من الدول الغربية، لجأت حكومة آبي أحمد إلى توظيف شعارات التضامن والوحدة الإفريقية الجامعة (Pan- Africanism)، ومن ثم تصوير تلك الضغوط الممارسة عليها بسبب تصاعد النزاع على أنها “إمبريالية غربية جديدة”[20] تهدف إلى المساس بسيادة واستقلال القارة الإفريقية، وأنّ إثيوبيا تمثل رمزية لكل ذلك في السرديات الإثيوبية الرسمية.

وقد جاء إضفاء طابع “إفريقاني” على هذا الصراع عقب فشل الحرب الخاطفة، كما أنها محاولة لإيجاد ظهير سياسي من قبل الدول الإفريقية يقدم الإسناد الدبلوماسي للحكومة الإثيوبية وحلفائها في المحافل الدولية، وإحباط أي محاولات للتدخل في هذا الصراع يمكن أن يرجح الكفة لمصلحة جبهة تحرير تيغراي التي كانت حليفاً قوياً، إبّان حكمها للبلاد بين عامي 1991- 2018، للقوى الكبرى، خاصة الولايات المتحدة، لا سيما في مجال مكافحة الإرهاب والأمن الإقليمي.

وعلاوة على ذلك، أثار نزاع تيغراي مخاوف جدّية من احتمالات انزلاق البلاد إلى حرب أهلية شاملة، في بلد يصل عديد سكانه إلى أكثر من 105 ملايين نسمة، وتحيط به بلدانٌ تعاني هي الأخرى هشاشة داخلية كبيرة وعدم استقرار مزمناً، مع وجود حكومات مركزية ضعيفة. وقد كان استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في التعبئة بين أطراف هذا الصراع عاملاً مؤثراً في اتساع نطاق خطابات الكراهية، لا سيما تصريحات المسؤولين الرسميين.

فشل جهود الوساطة

رغم تواتر التحذيرات من مغبة ترك إثيوبيا تنزلق في أتون نزاع مسلح تصعب السيطرة على تداعياته ونتائجه، بجانب الإجماع الدولي على أنه “لا حل عسكري لهذا لصراع”[21]، فقد تأخرت الجهود الدبلوماسية كثيراً في التوسط بين أطراف النزاع وممارسة ضغوط فعالة عليهم تجبرهم على وقف التصعيد أو جلب هذه الأطراف إلى طاولة التفاوض.

بشكل واضح، فشلت جميع الجهود الوقائية في منع تفجر النزاع[22]، إذ اقتصر التعاطي الدولي مع هذا النزاع من خلال آلية المبعوثين الخاصّين. وفي هذا السياق، جاء تعيين الاتحاد الأوروبي، في فبراير/ شباط الماضي، وزير خارجية فنلندا (بيكا هافيستو) مبعوثاً لنزاع تيغراي، الذي انخرط في زيارات متكررة، غير أنه فشل في إقناع المسؤولين الإثيوبيين بفكرة القبول بالحوار لإنهاء هذا النزاع. في حين أعلنت إدارة بايدن، في أبريل/نيسان الماضي، تعيين السفير جيفري فيلتمان في منصب المبعوث الأمريكي للقرن الإفريقي، ليضطلع بمهام محاصرة التداعيات الإقليمية لتصاعد الصراع في إثيوبيا.

في ذات السياق، وعقب تصاعد الانتقادات لموقفه من هذا الصراع، أعلن رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، في أواخر أغسطس/آب الماضي، تعيين الرئيس النيجيري الأسبق، أوليشيغون أوباسانجو، بصفته ممثلاً أعلى للاتحاد في القرن الإفريقي، للمساعدة في ترسيخ السلام والاستقرار في هذه المنطقة.

رغم الدّعم الدّولي للجهود التي قادها الممثل الأعلى للاتحاد الإفريقي، خاصة بعد تصاعد الصراع في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، فقد فشل في تحقيق اختراق ملموس في هذا الملف.

إجمالاً، يمكن القول إن العجز الدولي حيال النزاع في إثيوبيا قد ترسخ بوضوح رغم وجود إجماع دولي على مطالب محددة تركزت في الآتي:

1) وقف إطلاق النار أو العدائيات.

2) السماح غير المشروط بوصول المساعدات.

3) إجراء حوار وطني شامل لحل هذه الأزمة السياسية الأوسع نطاقاً بالبلاد، والتي كانت من نتائجها الحرب في إقليم تيغراي.

4) إجراء تحقيق دولي مستقل في مزاعم انتهاكات حقوق الإنسان.

أهم السيناريوهات المتوقعة

في ضوء المراحل التي بلغها هذا الصراع في إثيوبيا حالياً، تتضاءل فرص الحل السلمي؛ وعليه فإن السيناريوهات المتوقعة لإنهاء هذا النزاع يمكن إجمالها في الآتي:

السيناريو الأول: حرب استنزاف، وهو السيناريو الأكثر ترجيحاً في ظل فشل الدبلوماسية، وقبل ذلك تمسك الطرفين برفض الحوار وتفضيل الحسم العسكري، فضلاً عن افتقارهما إلى الأرضية المشتركة التي تصلح أساساً للتفاوض لإنهاء هذا النزاع بالطرق السلمية. وكذلك في ظل عجز المجتمع الدولي عن ممارسة نفوذ حقيقي على هذه الأطراف لإجبارها على الخضوع لشروط التسوية السلمية للصراع.

السيناريو الثاني: إجراء حوار وطني شامل يؤدي إلى حل سياسي متفاوض عليه بين جميع الفاعلين بالبلاد، على أن يكون هذا الحوار تحت إشراف أطراف دولية محايدة تحظى بقبول جميع الأطراف، ولكن هذا السيناريو مستبعد- في المدى المنظور- بالنظر إلى طبيعة الصراع حول طبيعة نظام الحكم الأمثل للبلاد بين مشاريع سياسية متناقضة بصورة جذرية، ولغياب ثقافة الحوار والتسامح السياسي وسط النخب السياسية.

[1] أوناق شاني: هو فصيل مسلح منشق عن جيش تحرير الأورومو (الجناح العسكري لجبهة تحرير الأورومو)، ويقوده جال مارو، وينشط في مناطق غربي إقليم أوروميا الذي يحيط بالعاصمة أديس أبابا.

[2] حول وصول آبي أحمد إلى السلطة في إثيوبيا والصراع بينه وبين جبهة تيغراي، انظر ورقتنا: إثيوبيا: من الانتقال الديموقراطي إلى الانسداد السياسي، (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، 2021)، ورقات تحليلية، 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، (شُوهد في20/12/2021م). على الرابط:  https://bit.ly/3JiwUXC

[3] نفس المصدر.

[4] حول الأبعاد الإقليمية لنزاع تيغراي ينظر:

Kheir Omer, Mohamed, “the Horn of Africa’s deadly civil wars, The Ethiopian civil war may end up creating another state,” inkstickmedia.com, November 18th, 2021. (Accessed 24/12/2021). https://bit.ly/3nxKzkx.

[5] انظر:

Gramer, Robbie, U.S Africa Envoy: Ethiopia Crisis could Make Syria Look Like ‘child play’ Foreign Policy, 25 April, 2021, (Accessed 24/12/2021) https://bit.ly/3pn45Bl

[6] حول هذه النقطة انظر: ساهيد أديجوموبي، تاريخ إثيوبيا، ترجمة مصطفى مجدي الجمال، ط 1، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2018)، ص 25 وما بعدها. وأيضاً:

Manaye, Tiglun, Why Ethiopians thinks the west is in the thrall oh TPLF propaganda, Ethiopia- insight, 20 December, 2021. (Accessed 24/12/2021) .https://bit.ly/3qlhcSM

[7] وردت هذه العبارة في: “تفاؤل إفريقي بحل للحرب في إثيوبيا”، موقع 24 الإخباري، 15/11/2021، (شُوهد 24/12/2021)، على الرابط:  https://bit.ly/3pnEGr4

[8] عن فكرة الاستعمار الداخلي في السياق الإثيوبي راجع أيضاً: عباس محمد صالح، “إثيوبيا: من الانتقال الديموقراطي إلى الانسداد السياسي”، مصدر سابق.

[9] راجع التحقيق الصحفي الذي كنا قد أنجزناه حول هذا الموضوع: عباس محمد صالح، “التطرف الإثني في إثيوبيا.. مخاطر البلقنة والصراع العرقي تحدق بالجمهورية”، العربي الجديد، 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، (شُوهد 24/12/2021م). على الرابط:  https://bit.ly/3B4dYI2

[10] حول مفهوم “مدمر” في سياق المشروع السياسي لآبي أحمد، راجع: عباس محمد صالح، “إثيوبيا: من الانتقال الديموقراطي إلى الانسداد السياسي”، مصدر سابق.

[11] حول سياقات العملية العسكرية لـ”فرض القانون والنظام”، التي أطلقتها الحكومة الفيدرالية في 4 نوفمبر/تشرين الثاني، راجع ورقتنا: عباس محمد صالح عباس، النزاع في إقليم تيغراي الإثيوبي.. النتائج والتداعيات، ورقات تحليلية، (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات؛ 2021)، 17يوليو /تموز 2021. على الرابط: https://bit.ly/3BIcYIW

[12] انظر:

Berhane Gebre- Christos, Tigray rebles’ top diplomat, Africa intelligence, 23/11/2021.

[13] انظر: “إثيوبيا… جبهة تحرير تيغراي تعلن انسحابها من إقليمي عفر وأمهرة وتعلن استعدادها للتفاوض”، موقع الجزيرة، 20/12/2021، (شُوهد في 24/12/2021م). على الرابط: https://bit.ly/3yWcxdN

[14] انظر:

The International Crisis Group, A Rare Chance for Peace in Ethiopia, 23 December, 2021. (Accessed 24/12/2021). https://bit.ly/3mxeCYH

[15] عباس محمد صالح، “نزاع التيغراي وتداعياته على القرن الإفريقي الكبير”، TRT عربي، 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، (شُوهد في 24/12/2021). على الرابط:  https://bit.ly/3prajQQ

[16] “الأمم المتحدة تعطي الضوء الأخضر لإجراء تحقيق دولي حول التجاوزات في إثيوبيا“، فرانس 24، 18/12/2021، (شُوهد في 24/12/2021). على الرابط:  https://bit.ly/3EmpDlL

[17] إثيوبيا: جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية “محتملة” في تيغراي حسب الأمم المتحدة، فرانس 24، 30/11/2021، (شُوهد في 24/12/2021). على الرابط: https://bit.ly/3Fq0ZSH

[18] نفس المصدر.

[19] راجع: العفو الدولية، إثيوبيا: موجة جديدة من الفظائع في غرب تيغراي، 17/12/2021، (شُوهد في 24/12/2021). على الرابط: https://bit.ly/3qFGLhN

[20] انظر: التحالف الأسود من أجل السلام يدين “العدوان الذي تقوده الولايات المتحدة ضد إثيوبيا“، فانا عربي، 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، (شُوهد في 24/12/2021).  على الرابط: https://bit.ly/32ypzlz

[21]الولايات المتحدة تحذر آبي أحمد: لا حل عسكرياً للصراع في إثيوبيا”، روسيا اليوم عربي، 25 /11/2021، (شُوهد في 24/12/2021). على الرابط: https://bit.ly/3ppBzPF

[22] حول فشل جهود الوساطة بشكل عام، انظر:

Brown, Will, Once the great hope of Africa, Ethiopia is descending into chaos before our eyes, the telegraph, November 15, 2021, (accessed 24/12/2021). https://bit.ly/2YMUEAA

مقالات ذات صلة