مرّت العلاقات الأميركية الروسية بمراحل عديدة متقلبة ومتفاوتة وفق الظروف وبحسب ما تقتضيه المصالح والأهداف، لكن لطالما سيطر الطابع الصراعي على العلاقة بين الطرفين الأمريكي و الروسي منذ نهايات الحرب العالمية الثانية، ونشوء المعسكرين الغربي والشرقي وصولا الى التوتر الذي يعيشه العالم حاليا بسبب الازمة الأوكرانية، حيث لم تعد الولايات المتحدة القوة المهيمنة لوحدها . فيرجح المحللين ان تقليص دورها فى مناطق عديدة كالشرق الأوسط ادى إلى بروز قوى إقليمية أخرى مثل روسيا، التي تعد جهة فاعلة عسكريا ودبلوماسيا فى الشرق الأوسطّ، بالاضافة الى امتلاكها مجموعة من المصالح فى شمال أفريقيا.
بالنسبة للولايات المتحدة وجود روسيا في مناطق نفوذها لا يتعارض حاليا مع المصالح الأساسية بشكل مباشر، لكنه يعقد إنجاز هذه المصالح ويضر بها لأن السياسة الروسية مدفوعة من الأساس بهدف الحد من نفوذ الولايات المتحدة ، بالتالي المنافسة ستكون لها أبعاد أخرى مستقبلا، ولكن في كل مرة تظهر في الساحة قضية جديدة تزيد من التوتر بين الطرفين هذا ما جعل تحليل وتفسير العلاقات الأمريكية الروسية يحتاج الى دراسة مختلف الابعاد الاقتصادية والسياسية والعسكرية ، خاصة في ظل التحديات الحالية.
ولكن هل يمكننا تحليل الصراع الروسي الأمريكي انطلاقا من البعد الجيوبوليتيكي والديني؟
تمتد مناطق التشابك بين روسيا والولايات المتحدة من أوروبا الشرقية الى الشرق الاوسط وصولا الى افريقيا، حيث تتصادم المصالح بين الدولتين في هذه المناطق بشكل متفاوت الحدة، ولكن تحتل منطقة اوروبا الشرقية أهمية قصوى في هذا الصراع على مر التاريخ ، باعتبارها امتداد حيوي لروسيا وفي نفس الوقت جزء من أوروبا.
لهذا عمل الباحثون على دراسة أبعاد الصراع الروسي_ الامريكي الدينية والجيوبوليتكية بشكل عام وفي اوروبا الشرقية بشكل خاص.
البعد الجيوبوليتيكي للصراع الامريكي الروسي :
تحتل النظريات الجيوبولتيكية مكانة مهمة في تحليل الصراع الأمريكي الروسي، وتمثل نظرية قلب العالم Heartland التي حاول فيها ماكيندر تفسير الحاجة إلى معالجة التوسع الروسي باتجاه الخليج الفارسي، إحدى اهم النظريات المختصة بمجال صراع القوى العالمية، ويتحدث هنا ماكيندر عن صراع القوة البرية والبحرية.
والتي يمكن اسقاطها على روسيا حاليا و الدول الاوروبية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، حيث يؤكد أنَّ أيَّة قوة بحرية لن تقف في وجه القوة البرية بحكم أنَّ هذه الأخيرة ستكون مسيطرة على هوامش الجزيرة العالمية بما في ذلك القواعد البحرية، كما أنَّ القوة البرية بما تمتلك من إمكانيات بشرية وموارد طبيعية ستكون في مركز أقوى يمكنها من غزو أية قارة أخرى و فرض السيطرة.
تتلخص نظرية قلب العالم لماكندر في الجمل التالية
من يحكم شرق أوروبا يسيطر على العالم
من يحكم قلب العالم يسيطر على جزيرة العالم
من يحكم جزيرة العالم يسيطر على العالم بأسره
لهذا إذا قمنا بالاسقاط فالقوة البرية تتمثل في روسيا حاليا التي تعتبر أكبر دولة من حيث المساحة ومسيطرة على مساحة برية كبيرة وتعتبر دولة حبيسة في قارة اسيا، بالمقابل أوروبا والولايات المتحدة القوى البحرية التي تمتلك إطلالات واسعة على المحيطات بل محاصرة بحريا خاصة الولايات المتحدة .
ويؤكد ماكندر على أن الوضع الجيوبوليتيكي الأفضل لكل دولة هو الوضع المتوسط المركزي،و القارة الأوراسية تقع في مركز العالم ويقع في مركزها قلب العالم، وهو تجمع الكتل القارية لأوراسيا، وهذا الجسر الجغرافي الأكثر ملاءمة للسيادة على العالم بأسره.
بالتالي هذه الفكرة لطالما أثارت مخاوف الولايات المتحدة من السيطرة الروسية بسبب موقعها الجغرافي وبالمقابل تعمل على محاصرة روسيا عن طريق توسيع الحلف الأطلسي وضم أكبر عدد ممكن من دول أوروبا الشرقية لتجميد التوسع الروسي.
وتعتبر الازمة الأوكرانية حاليا نقطة مهمة في هذا التوتر العميق والذي يحمل في طياته الكثير من الأبعاد، حيث تعمل روسيا منذ تفكك الاتحاد السوفياتي على بسط نفوذها والحفاظ على تواجدها في الجمهوريات السوفياتية السابقة والتي تمثل امتداد حيوي لروسيا بل جزء من أمنها القومي.
بالمقابل تتخوف الولايات المتحدة من هذا النفوذ الروسي، الذي يقلص من مساحة تحكمها ويزيد من توسع مناطق التواجد الروسية خاصة في أوروبا التي تعتبر مهمة جدا بالنسبة للولايات المتحدة لاستمرار الهيمنة وكبح تمدد الدول الشرقية ( روسيا وحتى الصين ).
ومن بين المقاربات الجيوبوليتيكية الاخرى المهمة اهي افكار فريدريك راتزل و الجيوبوليتيكا العضوية،حيث آمن راتزيل بأفكار داورين في التطور البيولوجي التي كانت سائدة في نهاية القرن التاسع عشر، ووضع صياغته لتحليل قوة الدولة لديه أشبه الداروينية حيث يؤكد أن الدولة لا تثبت حدودها السياسية، وكانت الدولة لديه أشبه بإنسان ينمو فتضيق عليه ملابسه عامًا بعد عام، فيضطر إلى توسيعها، وكذلك ستضطر الدولة إلى زحزحة حدودها السياسية كلما زاد عدد سكانها وتعاظمت طموحاتها.
وانطلاقا من وجهة نظر راتزل فالدولة يجب ان تتجاوز حدودها وتخترقها كلما اقتضت مصلحتها التوسع
هذه الفكرة بدورها تثير مخاوف الولايات المتحدة الامريكية، فروسيا في اطار منافستها الاقليمية والعالمية لاعادة بناء نظام دولي متعدد الاقطاب تعتمد على هذه النظرية بشكل كبير في سياستها مع دول اوروبا الشرقية، فهي تعتبر جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة امتداد حيوي لها وتدخل في إطار مجالها الطبيعي، ويبرز هذا بشكل واضح في تحركاتها السياسية وحتى خطابات الرئيس بوتين.
و يعتبر احتلالها لجزيرة القرم بداية توسعها الحيوي، والازمة الحالية واحتمالية اجتياح أوكرانيا دليل آخر على ثبات الرغبة الروسية التوسعية ، لان حسب اعتقاد بوتين من يسيطر على اوكرانيا غير روسيا من شانه ان يشكل تهديدا للامن الروسي، سواء كان الولايات المتحدة او حلف الناتو.
ولا تقتصر مخاوف التمدد الروسي في الشرق الأوروبي على الجانب الأمني والسياسي فقط ، فالولايات المتحدة تدرس احتمالات التمدد الديني الارثذكسي الى شرق اوروبا ومدى تأثيره على دول المنطقة وهذا ما يؤسس لخلاف ديني بين الطرفين.
البعد الديني في الصراع الأمريكي الروسي :
يرجح الكثير من الدارسين أن البعد الديني للصراع الأمريكي الروسي يبدأ من المنطلقات التوراتية المحرفة التي تمثل جزء كبير من التوجه السياسي الأمريكي بالاضافة الى الخلاف بين الأرثوذكس والبروستانت او المسيحية الصهيونية.
فبداية عند الحديث عن دور الدين في صناعة القرار في الدولتين يعتبر فصل الدين عن الدولة من المعتقدات الأساسية في الفكر الأمريكي السياسي وحتى الروسي لكن هناك اختلاط كبير للدين بالنشاط السياسي.
ففي الولايات المتحدة قد أدى هذا الخلط إلى وجود نوع من الانفعالية الدينية التي تدخل بطريقة أو بأخرى في التصريحات التي يلقيها القادة السياسيون والزعماء، هذا ما جعل الولايات المتحدة تظهر كدولة دينية في كثير من الأحيان ويبرز هذا في الوثائق التأسيسية للأمـة ، والتي تم تعزيزها مـن خـلال الخطـب الرئاسية.
إن المؤمنين بأهمية الدين في السياسة في الولايات المتحدة يبررون هذا التوجه أن الفصل بين الكنيسة والدولة لم يحرم العالم السياسي أو صانع القرار من البعد الديني، وقد عبر عن هذا روبرت بيلاه في مقالته عام 1967 ، تحت عنوان “الدين المدني في أميركا”.
و يعتبر الرئيس الأميركي ولسون أحد الرؤساء الأكثر تأثراً بالصهيونية منذ طفولته، وايضا مع وصول اليمين السياسي إلى الحكم في الولايات المتحدة ، ومجيء ريغان الذي بنى برامجها السياسية والاقتصادية على مبادئ دينية.
حيث في احد خطابات رونالد ريغن في دالاس ، تكساس في حفل ديني سنة 1984 تحدث عن دور الدين وتأثيره على الممارسة السياسة في الامة الامريكية وقال ان ” الدين والإيمان لطالما كان ولا يزال له دور حاسم ومهم في الممارسة السياسة في امتنا وان الكنيسة تمتلك اهمية كبيرة وهذا ما شكل مكسب كبير لامتنا ”
وأضاف أن ” ميثاق ماي فلاور ( قواعد الحكم الذاتي التي وضعها المستوطنون الإنجليز) قد بدأ بكلمات باسم الرب، و إعلان الاستقلال يناشد إله الطبيعة وخالقها والقاضي الأعلى في العالم…) واستمر ريغن في هذا الخطاب في الاستشهاد بتصريحات لصناع قرار وقضاة وشخصيات مهمة في الولايات المتحدة تؤمن بدور الدين في صنع السياسة بل تعترف بان الولايات المتحدة ليست دولة علمانية بل هي فعلا دولة دينية .
ويتمثل البعد الديني في الولايات المتحدة خاصة في السياسة، في الصهيونية المسيحية التي ترتبط بشكل كبير بالكنيسة البروتستانتية، فالمصادر التاريخية تؤكد على العلاقة العضوية بين الاثنتين ، فالصهيونية باختصار هي أيديولوجية تؤيد قيام دولة قومية يهودية في فلسطين بوصفها أرض الميعاد لليهود. وصهيون هو اسم جبل في القدس وتقول بعض المصادر إنه اسم من أسماء القدس.
أما الصهيونية المسيحية فهي الدعم المسيحي للفكرة الصهيونية، وهي حركة مسيحية قومية تقول عن نفسها إنها تعمل من أجل عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين وسيادة اليهود على الأرض المقدسة. ويعتبر الصهيونيون المسيحيون أنفسهم مدافعين عن الشعب اليهودي خاصة دولة إسرائيل، ويتضمن هذا الدعم معارضة وفضح كل من ينتقد أو يعادي الدولة العبرية.
وبالنسبة لروسيا فعلى الرغم ان الدستور يقر أن الاتحاد الروسي دولة علمانية ولا يجوز اعتماد أيّ ديانة كدين للدولة، لكن نسبة المسيحيين الارثذكس في روسيا كبيرة جدا بل لهم دور متصاعد في الحياة العامة بل حتى في السياسة، حيث تزايدت مواقف الكنيسة المعلنة تجاه مختلف القضايا السياسية، وأعلنت دعمها الكامل للحملة العسكرية في سوريا، واصفة إياها بالمقدسة، واغلب مواقف الكنيسة مناصرة لقرارات الرئيس الروسي حيث يحظى بوتين بمناصرة العديد من رهبان وقساوسة الكنيسة الروسية.
ومن هنا نقطة الخلاف الاولى حيث الكنسية الارثذوكسية تتخذ موقف معارض للصهيونية، وهذا حسب اعتقادهم للدفاع عن المسيحية بالدرجة الاولى التي تأثرت بالصهيونية وانحرفت، بالإضافة إلى موقفهم من الصهيونية المسيحية التي تعمل على إدخال أفكار لاهوتية غريبة على المسيحية لأهداف تصب في مصالح سياسية اسرائيل وقد قوبلت بالرفض.
ويؤكد الروم الأرثوذكس أن ما يجعلهم يتشددون في رفض الصهيونية المسيحية اعتقادهم بأن التفسيرات والتحليلات الصهيونية للكتاب المقدس هي تفسيرات وتحليلات سياسية وغير روحانية.
فهي تقوم على تفضيل الطقوس العبرية في العبادة على الطقوس الكاثوليكية بالإضافة إلى دراسة اللغة العبرية على أساس أنها كلام الله ، بالتالي يرجح الكثير من المحللين أن النصوص التوراتية المحرفة هي المصدر الأساسي لكثير من السياسات الامريكية، على رأسها دعم قيام الدولة العبرية.
وان هذا الدعم سيحقق لا محال مصالح كثيرة للولايات المتحدة الأمريكية، فبعيدا عن الإيمان بقيم الصهيونية والتقارب الديني إلى أن المصلحة لها دور كبير في هذه العلاقة العضوية، فإن تواجد اسرائيل في الشرق الاوسط معناه امتداد للنفوذ الامريكي و تحقيقا لمصالحها الاقتصادية والسياسية والامنية.
فان ابرز ما يجمع الصهيونية اليهودية والمسيحية في الفكر الصهيوني هو الاعتقاد بالقوة باعتبارها الطريق الصحيح لتحقيق الأهداف السياسية. فإسرائيل والقوى المسيحية الأصولية تعتقد بصنع الأسلحة الذرية و بالتسليح الأميركي لإسرائيل من أجل هزيمة العرب والسوفييت معا، بالتالي فالحرب والصراع هي الطابع الغالب على التصور الديني للولايات المتحدة.
وقد استخدمت الولايات المتحدة الصهيونية سابقا في صراعها مع السوفييت وحتى بعد تفككه، فخلال السنوات القليلة السابقة لانهيار الاتحاد السوفييتي، والتالية لظهور روسيا الاتحادية كدولة مستقلة، تمكن اللوبي الصهيوني من فرض سيطرته على مختلف جوانب الحياة الروسية ، واصبح اليهود يمثلون نسبة تتراوح بين ثلث ونصف شاغلي المناصب السياسية والاقتصادية والاعلامية والثقافية والعلمية الهامة في روسيا.
ويرجح المحللون ان التغلغل الصهيوني واسع النطاق في فترة من الفترات كان له تأثيراته السلبية الخطيرة على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في روسيا، وعلى سياستها الخارجية عموما، بالتالي هذا يمثل بعد آخر للصراع ويوضح اسباب التخوف الروسي من التمدد الصهيوني على الرغم من وجود نسبة كبيرة من اليهود في روسيا الى ان المنطلقات التي تحرك الصهيونية تثير الكثير من الشك حول التحركات المحتملة، فالنشاط الصهيوني يبرز بين يهود روسيا لاستغلالهم .
ويجادل الكثير من الباحثين المهتمين بالبعد الديني والتاريخي انه هناك دور خفي للنبوءات التوراتية المحرفة او مايطلق عليها بالروايات التوراتية في تحليل الصراع الغامض المحتمل بين مملكة الشمال والجنوب والذي يتم اسقاطه تارة على روسيا وتارة اخرى على المسلمين ، حث يتم الحديث عن حرب محتمل وقوعها بين مملكة الشمال ومملكة الجنوب، وتتحدث هذه المصادر المحرفة أيضا عن طابع الاستمرارية في الصراع بين ملوك الشمال و الجنوب وتجددها، وتعبير “ملوك” يشير الى قادة أقوياء سيأتون من مناطق الشمال و الجنوب بالنسبة لإسرائيل ليسيطروا على المنطقة.
حيث تعتبر اسرائيل في هذه النبؤات هي نقطة الالتقاء والمنطقة التي سيحدث فيها الصراع، لوصول ملوك الشمال الى هدف أساسي وهو عودة المسيح و إقامة مملكة “الرب “على الأرض.
يرى الدارسون لهذه النصوص والمؤمنون بها ان مملكة الشمال ستعمل على إعادة إحياء الامبراطورية الرومانية انطلاقا من أوروبا ، حيث ورد في كتابهم (سفر دانيال 11) أنّ ملك الشمال الذي تحدث عنه كما يبدو سيكون الحاكم الأخير في آخر هذا الزمان و الذي سيحكم دولة تتمركز في أوروبا.
وورد في نفس المصدر ص:11 ع:40 ” نرى أن جيوش هذين القائدين ملك الشمال و ملك الجنوب ستتحارب: “و متى حان الوقت يحاربه ملك الجنوب، فيسرع اليه ملك الشمال بمركبات و فرسان و سفن كثيرة و يدخل الأراضي و يجتاحها و يعبرها”.
هنا الحديث عن المراكب والسفن يجعلنا نتوقع ان المملكة المقصودة في الشمال هي مملكة بحرية وليس برية ، يتم اسقاط الهجمات الارهابية التي شهدها العالم منذ 2001 على انها بداية حرب مملكة الجنوب ضد مملكة الشمال،( حسب توصرهم المسلمين ينتمون الى مملكة الجنوب).
و ملك الشمال، وهو قوة الوحش المستوطن في أوروبا، سيكون منصوراً في هذا الصراع، لأنه سيغزو الأراضي المقدسة و يطيح بالعديد من الدول (ع:41)
هذه المنطلقات الدينية او التوراتية المحرفة ضبابية الى حد كبير، حيث يغيب فيها المحدد الزمني وحتى المحدد الجغرافي، حيث لم يتم تحديد أي دلالة واضحة على موقع المملكة الشمالية التي يطمحون لاحياءها بل بقيت مجرد روايات، وحتى بالنسبة لمملكة الجنوب فيتم النظر لها مرة على انها العرب والمسلمون، ومرة اخرى يتم الاشارة على انها تمثل الدول الشرقية روسيا والمناطق المحيطة بها وربما حتى الصين.
ولا يتوقف البعد الديني للصراع الأمريكي الروسي في المنطلقات التوراتية فقط ، بل يمتد للخلاف القائم ما بين البروستانت والارثوذكس ايضا، حيث يمكن ارجاع الاختلاف في الرؤى والأهداف بين الطرفين الى الاختلاف الديني الذي يعتبر عميق الى حد ما.
ويمكن ملاحظة الخلاف بين وروسيا الولايات المتحدة في تخوف هذه الاخيرة من التمدد الروسي شرقا، او تمدد الكنيســة الأرثوذكسـية نحو اوروبا الشرقية لخدمة مصالح سياسية وهذا ما سيضعف التواجد الامريكي.
فعلى سبيل المثال تمتلك الكنيســة الأرثوذكسـية الروسـية نفـوذ دينـي علـى الكنـائس الأوكرانيـة، غير انه مـع انـدلاع الأزمـة الأوكرانيـة فـي 2014 واجه نفوذهـا تحديـا كبيرا، وهـو مـا وضـح فـي انقسـام البطريركيـات بيــن بطريركيــة حافظــت علــى تبعيتهــا إلــى موســكو، فـي حيـن أن الثانيـة انفصلـت مؤسسـة بطريركية اوكرانيـا، وذلـك بإيعاز من السلطات الأوكرانية.
وتعـود مخـاوف السـلطات الأوكرانيـة مـن علاقـة البطريركية الروسـية بنظيرتها الأوكرانية إلـى سـنوات سبقت نشوب أزمـة شرق اوكرانيا، حيث كانت دائما تتخـوف مـن اسـتغلال موسـكو لهــذه العلاقــة فــي تمريــر خططهــا السياســية.
ويبدوا ان هذا الخوف لا يتقصر على اوكرانيا فقط بل هو مشترك مع الولايات المتحدة الامريكية التي تدعم اوكرانيا حاليا في ازمتها مع روسيا، حيث تمثل هذه الازمة من اهم النقاط الخلافية بين الدولتين ( الولايات المتحدة الامريكية وروسيا )
فبنفس الطريقة التي تعمل بها الولايات المتحدة على استغلال المسيحية الصهيوينية والتواجد الاسرائيلي لتحقيق مصالحها في الشرق الاوسط، وربما حتى للضغط على روسيا ومحاصرتها، لدى موسكو القدرة على استغلال البعد الديني و الكنيسة الارثذوكسية لدعم تحركاتها السياسية وتمددها نحو الشرق لحماية القيم المسيحية من الصهيونية او لحماية المواطنين في اوكرانيا ومختلف الدول الشرقية من التمدد الغربي.
ان الربط بين البعد الديني و الجيوبولتيكي لتحليل العلاقات الامريكية الروسية ليس بالامر الصعب فروسيا الارثذوكسية هي القوة برية، التي تنبأت الدراسات الجيوبولتيكية حول احتمالية صدامها مع القوة البحرية المتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية البروتستانتينية.
والاختلاف بين روسيا الولايات المتحدة لا يتقصر فقط على البعد الديني الذي يمثل أحد مجالات المنافسة الأمريكية، وأحد ابعاد التحليل فالبعد الجيوبولتيكي ايضا بدوره من اهم ابعاد تفسير العلاقة بين الدولتين، فقد عمل المحللون على استخدام الفرضيات الجيوبولتيكية حول المنافسة البرية والبحرية لتحليل طبيعة التفاعل بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا.
فعلى الرغم من أهمية البعد الديني في تحليل العلاقات الدولية، وتأثيره بشكل كبير على عالم السياسة إلى أن هناك من يعتبر التمسك بالدين والقيم عبثية ولا عقلانية، فلا يمكن تطبيق نفس المبادئ الأخلاقية والدينية على كل الدول، وهذا سيؤدي الى صدام بين الدول المختلفة، ولكن يمكننا استخدام الدين بطريقة براغماتية للتأثير على دول معينة، لخدمة مصالح محددة، فكل من الولايات المتحدة وروسيا تستخدم الدين خدمة لمصالح سياسية بالدرجة الأولى.
ففي روسيا مثل الديــن احدى الادوات التـي ارتكنت إليهـا الحكومـة فـي محاولتها لبنـاء الدولـة الروســية، وإيجــاد عقيــدة جديــدة تغايــر الايديولوجية الشيوعية المنهارة، والقيــم الليبراليــة الغربيــة التــي تنظــر إليهــا النخبــة الحاكمــة فــي الكرمليــن بشــك كبيــر، والكنيسة الروسية تحولت إلى أداة بيد الكرملين، يستخدمها لإضفاء قدسية على سياساته الداخلية والخارجية مقابل منحها امتيازات هائلة لا تملكها أي مؤسسة مدنية أخرى في البلاد.
والولايات المتحدة الأمريكية بدورها من أكثر الدول التي تعتمد البراغماتية والعقلانية كمدخل أساسي لكل سياساتها مما يجعل الصهيونية السياسية ماهي الى اداة واحدة من بين أدوات عديدة لتثبيت الهيمنة الأحادية. والعلاقة مع إسرائيل ما هي الى تعاون لوجود تطابق بين مصالح الطرفين بطريقة عميقة. فما يحقق مصلحة أميركا صالح لتحقيق مصالح إسرائيل الكبرى، والعكس صحيح .
لكن التحليل من منطلق جيوبوليتيكي صالح في كل الأوقات، فهو تحليل الذي يجمع ما بين البعد المادي والمعنوي وما بين البراغماتية و القيم وحتى الدين، وهذا ما بجعله اكثر قدرة على تحليل وتفسير العلاقات الامريكية الروسية المضطربة.
المراجع
يوسف العاصي الطويل، البعد الديني لعلاقة امريكا باليهود، مكتبة حسن العصرية،بيروت ،2014
يوسف الحسن . البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي – الصهيوني. مركزدراسات الوحدة العربية.المجلد 1. العدد 4.
جوليا ترويتسكايا، عالقات برجماتية: دور الكنيسة األرثوذكسية يف دعم السياسات الروسية،المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة، العدد 2018 – 26
نورا عبه جي، نظرية قلب العالم ، في الموسوعة السياسية.
ملفين رودس و اخرون ، الشرق الاوسط في نبؤات الكتاب المقدس، كنيسة الرب الموحدة ،مؤسسةعالمية،2010
فدوى بني عيش، الكنيسة البروتستانتية وعلاقتها بالمسيحية الصهيونية،الجزيرة ،07.01.2007 ، shorturl.at/dmvAW
افتكار مانع، الكنيسة الروسية.. جدل الدين والسياسة، في الجزيرة، 16/2/2016
د م ، روسيا في قبضة اللوبي الصهيوني، في البيان، 19.04.2002
نوار جليل هاشم، اوكرانيا في المجال الحيوي الروسي، في الموسوعة الجزائرية للدراسات الاستراتيجية، 23.06.2017
President Reagan’s Remarks at an Ecumenical Prayer Breakfast in Dallas, Texas – 08/23/84. YouTube channel Reagan Foundation
Reagan Foundation. 5 .01. 2011.
https://www.youtube.com/watch?v=tuPI8e8knSw
The Structure of Religion in the U.S. Lumen candela. Shorturl.at/vFLQ9