نحتاج للحديث عن الذكرى الثالثة للحراك الشعبي في الجزائر إلى بعض المقدمات الضرورية؛ لفهم أي تناول لهذا الموضوع في السياقات الحالية:
أولاً: تاريخياً ورسمياً ذكرى الحراك هي يوم 22 فبراير/شباط، لكن رمزياً تبقى ذكرى الحراك أسبوعية تتكرر في كل يوم جمعة، وهذا ما يرفع الحراك إلى مستوى رمزي، يحوله إلى فكرة مزمنة، تأبى النسيان والتوظيف، وتتجاوز كل محاولات الاستغلال السياسوي، ومن هنا فتاريخ 22 فبراير/شباط ليس له نفس الأهمية الرمزية ليوم الجمعة، الذي تحول بفضل الحراك إلى نقطة التقاء مهمة وحرجة، بين القدسية الدينية التي يؤمن بها الإسلاميون، والتنويرية العلمانية التي يؤمن بها العلمانيون.
ثانياً: عند محاولة تحديد موقع الحراك الشعبي في الخارطة السياسية، سنجد أنفسنا أمام وضع جد معقد، يجب إدراكه ووعيه حتى نفهم الأبعاد الحقيقية والواقعية والفعلية للحراك. بدون تعقيدات، وبدون تفاصيل مملة، تتوزع الخارطة السياسية اليوم بين ثلاثة فاعلين أساسيين: السلطة والعلمانيين والإسلاميين، مشكلة هؤلاء الفاعلين الثلاثة هي أنهم لا يشكلون وحدات وكيانات منسجمة، وإنما تكتلات معقدة لمجموعة من القوى التي تكون في كثير من الأحيان متضاربة فيما بينها، لا يجمعها إلا وجود معارض مشترك، حتى لا نقول عدو مشترك.
فبالنسبة للسلطة، وبعد أزمة أكتوبر/تشرين الأول 1988، تبنت، مثلها مثل كل الأنظمة العربية، ما يعرف بديمقراطية الواجهة، أو الديمقراطية الدفاعية، التي تمثل تحريفاً للديمقراطية الغربية، يستجيب لمطالب وضغوط التغيير التي نادى بها الشعب من جهة، ولضغوط المجتمع والرأي العام الدولي ومنظمات حقوق الإنسان، التي أصبحت أكثر حساسية للأنظمة الاستبدادية، من جهة أخرى.
تكوَّن نتيجة هذا الانتقال الديمقراطي الدفاعي نظام بطبقتين؛ طبقة واجهة تنتخب وفق الآليات الديمقراطية، حيث تستجيب هذه الآليات لكل المعايير الشكلية التي أرستها الديمقراطية الغربية، من تعددية وحرية في الترشح والانتخاب، وحرية التعبير… وطبقة عميقة تمثل السلطة الفعلية، حيث إنها هي من يحدد من يكون في الواجهة ومن لا يمكنه ذلك. ويكون انتقاء عناصر الطبقة العميقة بدقة وسرية من بين النخب الفاعلة.
أما بالنسبة للعلمانيين والإسلاميين فيمثلون قوة شعبية ذات تاريخ ومسارات نضالية مختلفة ومتباينة، فبالإضافة إلى التعارض الأيديولوجي والسياسي القائم بينهما، ينقسم هذان الفاعلان داخلياً إلى مجموعات متعارضة ومتضاربة فيما بينها، فنجد في كليهما اليساري واليميني، والمتطرف والمعتدل… يتبنى كل واحد من هذين الفاعلين استراتيجيات خاصة في التعامل مع السلطة، تتراوح بين المعارضة السلمية والمعارضة العنيفة، وبين المعارضة بالمواجهة ومحاولة التغيير من الخارج، أو المواجهة بالتسلل إلى داخل السلطة، ومحاولة التغيير من الداخل. علماً أن تركيبة السلطة مزدوجة الطبقة، تسمح- ضمن استراتيجيتها هي أيضاً، خاصة فيما يتعلق بتنظيم وإعادة تنظيم وتوزيع السلطة- بتسلل كلا الفاعلين إلى طبقة الواجهة فقط، ويمنع عليهما منعاً باتاً الوصول إلى الطبقة العميقة، وهو ما يحوِّل العلمانيين والإسلاميين الذين يتبنون فكرة التسلل والنفوذ، في نهاية المطاف، إلى مجرد ممثلين رديئين لدور سياسي لا يقدم ولا يؤخر شيئاً بالنسبة للمجتمع، ليتحولوا في النهاية إلى مجموعات انتهازية، تعمل بشراهة على الاستفادة من الفرص الريعية التي تقدمها السلطة مقابل إتقان أدوار الواجهة الرديئة. أما الذين يتبنون فكرة المواجهة السلمية أو العنيفة فيعاملون كفاعلين هامشيين، يقعون خارج السلطة، وأحياناً خارج المجتمع وخارج الدولة، فتستفيد منهم السلطة لتزيين واجهتها الديمقراطية، لتصبح أكثر انسجاماً مع ديمقراطية فيها معارضون شرسون، لكنهم في النهاية مجرد أقليات سياسية بدون امتدادات شعبية، تجعل مردودهم الانتخابي الضعيف مقنعاً للمتابع الموضوعي للشأن السياسي الجزائري، ما يعطي الانطباع بممارسة ديمقراطية حقيقية، ناجحة في كل التفاصيل الشكلية والتنظيمية، ما عدا تفصيلاً واحداً هو أنها ديمقراطية موجودة من أجل كبح ومنع التداول على السلطة.
إذاً في ظل هذا التوزيع المعقد أين هو موقع الحراك الشعبي؟ انطلق الحراك الشعبي بوصفه فكرة تغيير شامل وفوري وضعت السلطة في مواجهة مباشرة للشعب، وهو ما أدى كإجراء أولي إلى التضحية السريعة والعنيفة بمعظم مكونات سلطة الواجهة، لأنها لم تعد تنسجم مع مستوى الوعي الذي أصبح لدى الشعب، ولأنها فشلت في تنفيذ الأدوار الموكلة إليها، مع وجود شكوك شبه مؤكدة بمحاولة هذه الواجهة التغلغل إلى عمق السلطة وإعادة تنظيم الطبقة العميقة بالشكل الذي يغير كثيراً من موازين القوة داخل السلطة ككل.
من هنا كان الحراك الشعبي مبرراً من عدة نواحٍ؛ فهو من جهة ثورة شاملة تقوت بالدعم الشعبي غير المشروط ومنقطع النظير، والمستمر لعدة أسابيع، ضد الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وثورة ضد الجمود الذي أصاب الدولة لتتراجع بداية من 2014 إلى ما قبل العهود الوثنية المظلمة، ليتحول الحراك على المستوى الشعبي إلى قوة تغيير وضغط لا يستهان بها، خاصة خلال سنته الأولى؛ ومن جهة ثانية هو مبرر لأنه أعطى للطبقة العميقة من السلطة المبررات التي تسمح لها بإعادة تنظيم نفسها، وإعادة تشكيل نخبها، على النحو الذي يسمح لها بإعادة التحكم في الوضع، واجهة وعمقاً، ومن ثم ضمان الاستقرار والثبات عن طريق التغيير الشامل والجذري، أي إن الطبقة العميقة للسلطة استعملت الحراك الشعبي، الذي أصبح مباركاً بداية من سنته الثانية، لتنفيذ إصلاحات داخلية عميقة، على طبقتي السلطة العميقة والواجهة، علماً أن هذه الإصلاحات مست عدداً من عناصر البنية، لكن دون أي تغيير في بنية ومبدأ السلطة الأساسيين.
من هنا تحول الحراك الشعبي إلى نوع من الفكرة التي تسري كالريح، فانتقلت من الأوساط الشعبية لتطول السلطة بطبقتيها العميقة والواجهة، ولكن رغم أن فكرة الحراك كانت تبدو فكرة متينة وشاملة، فإنها إلى غاية اليوم، بعد ثلاث سنوات، لا تزال فكرة قاصرة من حيث إنها فشلت في تغيير أمرين مهمين لا يمكن أن يكون التغيير الاجتماعي الشامل إلا بحدوث تطور نوعي فيهما.
الأمر الأول:
هو أن الحراك فشل في إحداث أدنى تغيير في المجتمع، وهذا ليس ذنبه، لأنه بالأساس ليس هذا دوره، فالمجتمع الذي كان موجوداً قبل 2019، والمجتمع الموجود بعد 2019 هو نفسه، فبعد الهالة التي صاحبت الحراك، وصورت المجتمع الجزائري على أنه مجتمع استثنائي، استفاق هذا المجتمع بعدما خبت تلك العواطف الجياشة، ليجد نفسه أمام نفس النماذج البشرية التي كانت موجودة قبل الحراك؛ نفس الانتهازية السياسية، ونفس الأطماع الريعية، إذ لم تتغير إلا بعض الوجوه، وكأننا انتقلنا من جيل من الانتهازيين الكهول والأميين والفاشلين، إلى جيل من الانتهازيين الشباب و”المثقفين” والفاشلين أيضاً.
وهذا ما يحيلنا إلى مسألة مهمة، وهي أن الحراك الشعبي لا يغير المجتمع، كما لا يمكنه أن يغير النظام أو أشكال توزيع السلطة، تغييراً عميقاً، لأن تغيير المجتمع مرتبط بسيرورة طويلة ومؤلمة، تعيد بناء العلاقات الاجتماعية، اقتصادياً وسياسياً وثقافياً ودينياً، بمعنى أن التغيير يجب أن يحدث في المجتمع وبشمولية، ويجب أن يعالج هذا التغيير، الذي يمكن أن يحدث على مدى قرون من الزمن، جذرياً وقطعياً، اختلالات علاقاتنا الاجتماعية بعضنا مع بعض، في مجالات الاقتصاد والسياسة والثقافة والدين. وفي هذا أنا أرى أن أي تغيير يمكن أن يؤدي إلى تطور نوعي للمجتمع الجزائري يجب أن ينطلق من ثورة اقتصادية شاملة، تعيد النظر في علاقتنا مع مفهوم العمل وتوزيعه، وفي علاقتنا مع الإنتاج ومع الريع ورأس المال والثروة، ثورة لن تنجزها السلطة ببرامجها الطموحة، التي لا يتحملها ولا يتقبلها واقع فاسد، بل ثورة اقتصادية ينجزها المجتمع ككل وبخاصة الاقتصاديين، عندما يتحررون من قبضة السلطة، ويتحول إلى إنتاج الأفكار المقاولاتية البسيطة والمعقدة، التي يمكن أن تصل إلى تأسيس تدريجي لنظام اقتصادي مندمج، مستقل كلياً عن انتهازية السياسي، وتعاطف الإدارة، وسخاء الطبقة العميقة من السلطة.
الأمر الثاني:
هو أن هذا الحراك وكفكرة يجب أن يتواصل، حتى ولو بدعم من السلطة القائمة، لكنه يجب أن يتحول إلى حراك أفكار، يأخذ على عاتقه السعي الحثيث والجدي لفك التعارض القائم بين الإسلاميين والعلمانيين. على الرغم من بساطة هذه الفكرة فإنها مسألة جوهرية، وشرط أساسي لإنجاح الحراك.
لقد حاول الحراك، وعلى مدى ثلاث سنوات، تلافي الخوض في هذه المسألة، وتلافي الإجابة عن السؤال المحرج: ماذا بعد تغيير النظام؟ كيف ستتوزع السلطة بين الفاعلين الجدد؟ وما هو شكل المجتمع والدولة التي يريدها الحراك؟ تلافى الحراك الإجابة عن هذا السؤال لأنه سؤال مفخخ، ومفجر، سيؤدي إلى تفجير الحراك مع أول محاولة للإجابة عنه.
عملت السلطة منذ البداية على دفع الحراك إلى تقديم إجابة سريعة، بل ضغطت بكل الطرق لتكون هذه الإجابة عن هذا السؤال متسرعة؛ من خلال ضغطها على الحراكيين لتقديم ممثلين وقيادة يمكن التعامل معها سياسياً، لأن السلطة تدرك من تجربتها أن تعيين القيادة معناه تحديد هوية الحراك، ومن ثم تحديد العدو الذي يجب التعامل معه، وتحديد الاستراتيجية المناسبة لمواجهته. وعندما طال الأمد، واستمر الحراك في العمل دون هوية أيديولوجية واضحة، أصبح وكأنه ملك شاغر، يمكن لأي مغامر أن يستحوذ عليه، فبدأت تطفو بعض الطفيليات السياسوية التي حاولت ببلادة إعادة إنتاج الأساليب التقليدية للتزلف للسلطة، وفي هذه اللحظة بالذات استحوذت السلطة على الحراك، وحولته إلى شعار السلطة للتغيير، شعار يبشر بجزائر جديدة مختلفة عن جزائر الفساد والريع.
عند تقييم نتائج الحراك بالنسبة للوعي المجتمعي، وبالنسبة لمدى تطور وعي الفاعلين الأساسيين، سنجد أن النتيجة حتى الآن سلبية نسبياً، فما عدا عامل الإثارة، الذي سمح بتغيير وضع الإنسان الجزائري من وضع المخدر النائم إلى وضع المستفيق المستيقظ لم يحدث شيء آخر على المستوى الفكري والثقافي، لم تحدث اختراقات كبيرة، ولا نقاشات مؤسسة، تبشر بتغيير مجتمعي شامل، بل ظلت كبريات الإشكالات الأيديولوجية تواصل إرهاقها للمجتمع، ولهذا أنا أرى أن استحواذ السلطة على الحراك يعد مسألة إيجابية، لأنها أعطت الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين فضاء مدستراً ومقنناً، يمكنهم من خلاله طرح الإشكاليات الكبرى للنقاش الجدي والمثمر، وليس نقاشات تحسين السيرة الذاتية الشخصية، نقاشات حرة ومتسامحة حول وضع ومكانة الاقتصاد، ووضع ومكانة السياسة، ووضع ومكانة الدين، ووضع ومكانة الثقافة واللغة، في المجتمع المنشود، أي نقاشات هدفها وغايتها النهائية تحقيق المواطنة، المنسجمة والمتكيفة مع واقعنا الاجتماعي، التي تترفع عن الإقصاء من أي شكل ومن أي نوع.