يطرح تصاعد الأزمة الأوكرانية بعد دخول القوات الروسية دونباس شرقي أوكرانيا عدة تساؤلات رئيسة، وهي: هل العقوبات الغربية التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها قادرة على إنهاء الأزمة؟ وهل هي ذات جدوى لتغير مسار فكر روسيا وبوتين؟ وهل هناك تصعيد في العقوبات؟ ألم تعلم روسيا قبل إقدامها على تحركاتها العسكرية والسياسية أن هناك عقوبات قادمة؛ هل استعدت؟ وهل تملك أوراق ضغط، ولديها حوائط صد؟ هل تتضرر روسيا وتغير سلوكها؟
الخبرات سابقة للعقوبات
بدأت العقوبات الغربية على روسيا فعلياً في عام 2014 بعد ضم جزيرة القرم، ومن وقتها والعقوبات تجدد بصفة دورية، مع اختلاف درجتها وحدتها بين الحليفين الأوروبي والأمريكي، ولفهم واقع العقوبات الجديدة يلزم أولاً فهم العقوبات السابقة ومدى التعامل معها وأثرها على الطرفين، خاصة أن الاتحاد الأوروبي قد جدد العقوبات الدورية على روسيا في يناير/كانون الثاني الماضي 2022، التي تنتهي في 31 يوليو/تموز 2022، ويمكن إبراز أهم العقوبات التي توقع على روسيا:
1. عقوبات أوروبية
– فرض حظر على تصدير الأسلحة.
– تقليص وصول روسيا لمعدات تستخدم في التنقيب عن النفط والغاز.
– تجميد أصول 150 شخصاً و37 كياناً، مثل القادة العسكريين والسياسيين الروس والداعمين للانفصاليين في دونباس.
– حرمان البنوك الروسية من القروض طويلة الأجل.
– منع شركات للدفاع والطاقة من الوصول إلى الأسواق الأوروبية.
2. العقوبات الأمريكية
تدرجت العقوبات الأمريكية على روسيا طبقاً لمرحلتين؛ الأولى وهي أثناء حكم الرئيس أوباما، من 2014 وحتى نهاية 2016، ثم المرحلة الثانية عقب مجيء ترامب، التي شهدت ضغوطاً على روسيا والاتحاد الأوروبي لوقف مشروع نورد ستريم 2، من خلال توقيع عقوبات على الشركات العاملة فيه، ومن أهم العقوبات الأمريكية:
– عقوبات على خطوط أنابيب الغاز، سواء تلك المنتهية مثل تركستريم، نوردستريم، ونوردستريم 2، طبقاً لقانون مكافحة أعداء أمريكا أغسطس/آب 2017. مع الأخذ في الحسبان وقف بايدن العقوبات الأمريكية على مشروع نورد ستريم 2 في مايو/أيار 2021.
– عقوبات على الأسلحة الكيماوية؛ وتمت في ثلاث جولات، اثنتان منها في عهد ترامب عامي 2018 و2019، ثم الثالثة في عهد بايدن مارس/آذار 2021.
– منع قروض تمويل شركات تصنيع الأسلحة الروسية.
– عقوبات على أفراد وشركات روسية.
أما عن الرد الروسي والسياسات التي واجهت بها روسيا العقوبات فتبرز في النقاط التالية:
أ. حظرت روسيا ورادات المواد الغذائية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا وأستراليا والنرويج وألبانيا والجبل الأسود وآيسلندا وليختنشتاين وأوكرانيا.
ب. تقييد التجارة مع أوكرانيا، وجورجيا، ومولدوفا، مع تقييد السفر لبعض المسؤولين الغربيين.
وأدت العقوبات الغربية على روسيا إلى بحثها عن سياسات جديدة لمواجهة التداعيات، بداية من البحث عن إمدادات بديلة ومحلية لتلافي العقوبات المفروضة على صناعة الأسلحة، مروراً بالعمل على برنامج استبدال الواردات واللجوء إلى دول مثل الصين وتايوان، وعلى المستوى المصرفي أممت موسكو بنك (promsvyazbank).
وقدرت الخسائر الاقتصادية لروسيا نتيجة للعقوبات الأوروبية، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي بين 2014-2018، بحوالي 2% من الناتج المحلي الإجمالي، منها خسارة روسيا نسبة 3% توظيف العمالة المرتبطة بصناعة الأسلحة، مع مساهمة العقوبات في تأخر برنامج تحديث الأسلحة، وتسليم محركات سفن الملاحة، لكن في المقابل عززت روسيا من صناعتها الوطنية، والإنفاق المحلي على الأسلحة، حيث بلغ حجم الإنفاق بين عامي 2011 و2020 حوالي 300 مليار دولار، كلها تقريباً من الشركات المصنعة محلياً.
أما عن تأثير العقوبات الروسية المماثلة على دول الاتحاد الأوروبي فقدرت خلال نفس المدة (2014-2018) بحوالي 30 مليار دولار. كما انخفضت صادرات الاتحاد الأوروبي إلى روسيا بنسبة 20.7% ما بين عامي 2014 و2016. وعلى مستوى السلوك، ورغم الخسائر التي منيت بها روسيا لم تتراجع عن سياساتها في القرم، ولا دعمها للانفصاليين في دونباس، فضلاً عن أدوارها في الشرق الأوسط في ملفات سوريا وليبيا.
3. العقوبات الجديدة
عقب إعلان روسيا اعترافها بالجمهوريات الانفصالية في دونباس، ثم قيامها بالعمليات العسكرية داخل أوكرانيا، ردت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون ودول أخرى بسلسلة عقوبات تصاعدية حتى تتراجع روسيا عن موقفها، وفيما يلي نرصد أبرز العقوبات ونوعيتها:
1. عقوبات فردية: فُرضت عقوبات على عدد من الأفراد المقربين من بوتين، منهم رجال أعمال وقادة عسكريون، على سبيل المثال “جينادي تيمشينكو” سادس أغنى رجل في روسيا، و”إيجور روتنبرج”. وتشمل العقوبات الغربية تجميد أصول مالية لهم. ثم تصاعدت العقوبات الفردية ولم تكتفِ بالشخصيات المقربة من بوتين، إذ شملت بوتين ذاته ووزير خارجيته.
2. عقوبات مصرفية: اهتمت الولايات المتحدة بالضغط على المصارف المالية التي تمول القوات الروسية، وخاصة المملوكة للدولة، والتي تملك شركات مالية وأصولاً ومحافظ ذات قيمة، مثل بنكي (VEB) و((PSB، ومن شأن تقييد عمل تلك البنوك التأثير على عقود تمويل صفقات السلاح الروسية وكذلك الحملة العسكرية التي تجريها في أوكرانيا. ومن جانب آخر وفقاً للخزانة الأمريكية فإن العقوبات سوف تشمل الشركات التابعة لبنك (VEB) التي تساهم في صناعة المنتجات الإلكترونية، وصناعة التعدين والفحم، وخدمة الديون السيادية الروسية.
3. حظر التجارة مع المناطق الانفصالية أسوة بالقرم.
4. تعليق مشروع نورد ستريم 2: أعلنت ألمانيا تعليق مشروع نورد ستريم 2، الذي ينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق. المشروع تعرض لعدة انتقادات؛ بداية بتوقيع الرئيس السابق ترامب عقوبات أوقفت عمله، مروراً برفض حزب الخضر، شريك الائتلاف، المشروع، وانتهاء بموقف دول العبور مثل أوكرانيا وبولندا اللتين تنقلان الغاز الروسي بالفعل لأوروبا عبر أنابيب غاز أخرى. المشروع كان من المفترض أن تتم الموافقة عليه بنهاية شهر يونيو/حزيران القادم على الأقل.
4. أوراق ضغط روسية
تمتلك روسيا عدة أوراق ضغط تواجه العقوبات الغربية، بعضها نابع من سياسات احتياطية اختبرتها طوال السنوات السبع الماضية، وبعضها الآخر من واقع سياق الأزمة الحالية وعدم دعم الغرب لأوكرانيا عسكرياً بما يحفظ لها القدرات التي تمكنها من المواجهة والدفاع عن نفسها. من الأوراق ما يلي:
1.ملف الغاز: يعتمد الاتحاد الأوروبي في تلبية احتياجاته من الغاز على الاستيراد وطوال عشر سنوات تعد روسيا المورد الرئيسي للاتحاد من الغاز، كما هو مبين بالجدول (رقم1):
حصة روسيا من إجمالي ورادات الاتحاد الأوروبي للغاز من 2010-2020 |
||
العام | النسبة المئوية | ملاحظات |
2010 | %35 | |
2011 | %30 | |
2012 | %32 | |
2013 | %39 | |
2014 | %37.5 | بداية توقيع العقوبات الأوروبية على روسيا |
2015 | %37 | |
2016 | %39.9 | |
2017 | %39.3 | |
2018 | %40.2 | |
2019 | %44.7 | |
2020 | %43.4 |
من الجدول السابق وعلى اعتبار أن عام 2014 سنة مقارنة بين إمدادات روسيا للاتحاد الأوروبي من الغاز، قبل وبعد ضم القرم، فإنه يلاحظ ارتفاع حصة روسيا من سوق الغاز الأوروبية من %37 عام 2015 لتصل إلى %44.7 عام 2019. وبحسب بيانات موقع الإحصاء الأوروبي حول الموردين الرئيسيين للغاز في أوروبا عام 2019، فإن روسيا جاءت في المرتبة الأولى، تليها النرويج في المرتبة الثانية بنسبة %21.3، ثم الجزائر عند %12.1، وفي المرتبة الرابعة الولايات المتحدة عند %6.7. وبالنسبة للفصل الأول (حتى 30 يونيو/حزيران) من عام 2020، فإن روسيا ظلت كما هي الأولى عند نسبة %39.3 ثم النرويج عند %19.2، والجزائر والولايات المتحدة عند نفس النسب تقريباً. الملاحظ مما سبق، خاصة في عامي 2019 و2020، هو الفرق الكبير بين حصة روسيا والدول التي تليها، سواء النرويج التي تقل عنها بما يقارب النصف، أو الجزائر والولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يعني صعوبة استبدال روسيا بمورد غاز آخر على مستوى منتجي الغاز الكبار في العالم، وذلك في ظل ارتفاع تكلفة الغاز الأمريكي المسال.
2.الاحتياطات الأجنبية: تمتلك روسيا احتياطات مالية كبيرة، حيث بلغ الاحتياطي النقدي الأجنبي لدى البنك المركزي الروسي حوالي 631 مليار دولار، بما يقوي مركز روسيا المالي أثناء الحظر الغربي حال استمر مدة طويلة، وإن كان ثمة مؤشرات على عدم قدرة بعض الدول الأوروبية، مثل إيطاليا وألمانيا، على استمرار العقوبات المالية كثيراً على روسيا، لتضرر تلك الدول اقتصادياً بحظر تصدير المنتجات إلى روسيا، أو الديون السيادية الروسية، والتي يوجد كثير منها لدى بنوك أوروبية.
3. الاكتفاء الذاتي: على غرار نشاط روسيا السابق في الاعتماد على نفسها بصورة كبيرة في صناعة الأسلحة، يظهر توجه بالاستخدام الأمثل لاحتياطات الذهب، والنفط، والمعادن، وغيرها من الثروات غير المستغلة، بما يؤهل روسيا لتحتل مكانة عالمية أكبر في هرم الدول الصناعية.
4. التوجه نحو الصين: مع إدراك روسيا عدم وجود بديل يوفر لأوروبا كل احتياجاتها من النفط والغاز، فإنها سعت لفتح أسواق جديدة وزيادة حصص التصدير لدول ترتبط معها بشراكات ومصالح وتوجهات كبيرة، خاصة الصين، وذلك بثلاث خطوات رئيسية؛ الأولى مضاعفة صادرات الغاز الروسي للصين في عام 2021، بزيادة تصل إلى 98% عن عام 2020. والخطوة الثانية توقيع شركات الغاز الروسي جاز بروم، روزسنفت، على عقود طويلة الأجل مع الصين لتوريد الغاز الروسي، أحدها لمدة عشر سنوات والآخر 30 عاماً. والخطوة الثالثة تمثلت في تدشين خط غاز “قوة سيبيريا”، الذي يفترض أن ينقل حوالي 38 مليار مكعب من الغاز بحلول عام 2025.
المحصلة والمستقبل
ثمة مؤشرات توضح وتبرهن على عدم جدوى العقوبات الحالية على روسيا، وترسم مستقبل العلاقات ومدى قدرة روسيا على المواجهة:
- التأثير على أزمة القرم: رغم العقوبات الأوروبية والأمريكية على روسيا بسبب ضم شبه جزيرة القرم منذ عام 2014 وحتى الآن، فإن روسيا لم تغير موقفها، بل واستطاعت تحسين علاقاتها مع أوكرانيا في نهاية 2019 بتوقيع اتفاق لنقل الغاز الروسي لأوروبا عبر الأراضي الأوكرانية لمدة خمس سنوات مقابل 2.9 مليار دولار، لتنهي خلافاً استمر عشر سنوات بينهما على نقل الغاز ومنح أوكرانيا أسعاراً تفضيلية. وهو ما يعني فرض سياسة الأمر الواقع على كل الأطراف؛ الأوكراني والغرب المتمثل في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
- تحقيق الأهداف: لم تمنع العقوبات الغربية روسيا من تحقيق أهداف لها في القارة الأوروبية أو في الشرق الأوسط وإفريقيا وغيرها من مناطق نفوذ الغرب الذي حصلت روسيا على بعضه. فالعقوبات لم تمنع روسيا من دخول سوريا، ولا التنسيق مع تركيا فيها أو في ليبيا، ولا حتى التنافس في إفريقيا، وخاصة في دولة مثل مالي، إحدى أهم مناطق النفوذ الفرنسي. في المقابل زادت وتيرة العلاقات التجارية مع الدول الثلاث ألمانيا وفرنسا وإيطاليا عقب تطبيق العقوبات الغربية، بل واستطاعت روسيا التحايل على كثير من العقوبات حين استخدمت نفوذها وأصبحت دول مثل صربيا وبيلاروسيا وغيرها تستورد المنتجات التي تحتاج إليها روسيا ثم تعيد تصديرها لها.
منع توسع الناتو والاتحاد الأوروبي شرقاً: في الوقت الذي تعتبر روسيا سياسة الجوار الأوروبي مع الشركاء الشرقيين مثل (جورجيا – أوكرانيا) سياسة تضر بمصالحها، لم تستطع أوكرانيا الانضمام إلى حلف الناتو، فيما لم تفلح دول البلقان الثلاث (ألبانيا – ومقدونيا الشمالية – وصربيا) في الدخول في الاتحاد الأوروبي رغم استيفائها الشروط المطلوبة، بل ودفعها طول الانتظار إلى تبني مشروع “البلقان المفتوح”، أو ما يسمى شنجن المصغر، وهو انتصار يحسب لروسيا بمنع الدول السابقة في الاتحاد السوفييتي من التحرك خارج حدود رغبات وأهداف روسيا.
وأخيراً تخاذل الغرب في دعم أوكرانيا عسكرياً، مع رفض ألمانيا تطبيق عقوبة منع روسيا من نظام التحويلات المالية سويفت، ومطالبة دول مثل إيطاليا باستثناء منتجاتها من العقوبات، وعدم وجود بديل للغاز الروسي، كلها عوامل تؤكد أيضاً أن العقوبات الغربية لا جدوى لها.