تحتل الحرب الروسية الأوكرانية أهمية كبيرة، نظراً لأهمية الدولتين وموقعهما في خريطة العالم، والعلاقات السياسية والاقتصادية المتشابكة التي تربطهما بالمجتمع الدولي، والفرص الخارجية لأطراف الصراع التي تتعدى جغرافيا أوروبا الشرقية لتتحكم في موازين القوة الخارجية؛ لهذا فإن انعكاس ما يحدث من مواجهات على الواقع الدولي أصبح أمراً مؤكداً منذ البدايات الأولى للأحداث.
ويظهر من تداعيات الحرب وانعكاساتها المختلفة أن الصراع وجودي بالنسبة للطرفين، ومن المتوقع أن يكون له دور في صياغة موازين القوى الدولية، وإعادة توزيع المصالح والثروات في العالم، بما يتناسب مع تداعيات الحرب ونتائجها.
يبحث تقدير الموقف في أهمية الموقع الجيوسياسي الأوكراني وحساسيته بالنسبة للأطراف الدولية، ومؤشرات ترهل النظام الدولي أحادي القطبية، إضافة إلى انعكاسات سيناريوهات نتائج الحرب المحتملة على الواقع الدولي.
تأثير الموقع الجيوسياسي الأوكراني في موازين القوى الدولية
الموقع الذي تتمتع به أوكرانيا ما بين النطاق الروسي والأوروبي جعلها ممراً للغزو الأوروبي التاريخي لروسيا، فقد تعرضت روسيا للغزو عدة مرات من هذا الممر، سواء من الجيش السويدي أو ما قام به نابليون بونابرت ثم هتلر، ولهذا تنظر روسيا إلى أوكرانيا تاريخياً على أنها نقطة ضعف كبيرة بالنسبة لها، وتعتقد أن بقاء هذه المنطقة بعيدة عنها سيجعلها في تهديد دائم، وقد حرص الاتحاد السوفييتي سابقاً على أن تظل أوكرانيا متصلة به، وأن تبقى امتداداً طبيعياً وديمغرافياً وحضارياً لجغرافيا الاتحاد السوفييتي قبل أن تصبح دولة مستقلة منذ العام 1991.
في المقابل يرى الغرب أن أوكرانيا وأوروبا الشرقية عموماً حائط صد أمام الروس لمنعهم من العودة من جديد، وأنه لا بد من عزل أوكرانيا سياسياً واقتصادياً عن روسيا، كما أن روسيا لم تقبل انفصال أوكرانيا تماماً عن نفوذها، وظلت تراقب دورها عن قرب، وترى أنها تمثل عمقاً استراتيجياً وامتداداً طبيعياً بالنسبة لها، وأن الحديث عن انضمام أوكرانيا للناتو يعد مهدداً وجودياً لروسيا، ولهذا بدأت، منذ عام 2014، تفكر في إعادة إخضاع أوكرانيا للمركزية الروسية، من أجل تحقيق الطموحات الروسية في السيطرة على أوروبا الشرقية، انطلاقاً من نظرية قلب العالم التي حاول فيها “ماكيندر” تفسير ظاهرة الصراع، وبيان أن من يسيطر على أوروبا الشرقية يسيطر على العالم.
لهذا يبدو أن روسيا رتبت نفسها مسبقاً لغزو أوكرانيا، وأن الشروط الروسية لوقف الحرب تقارب مسألة الانتصار العسكري وفرض واقع جديد، حيث تشترط روسيا القبول الأوكراني بالأقاليم المنفصلة دولاً مستقلة، والاعتراف بشبه جزيرة القرم جزءاً من الأراضي الروسية، وتعديل النظام السياسي الأوكراني إلى نظام فيدرالي، والتعهد بعدم الانضمام للناتو، وهي شروط تبدو تعجيزية أمام أوكرانيا.
دور الحرب الروسية الأوكرانية في كشف مؤشرات ترهل النظام الدولي
كشفت الحرب الروسية الأوكرانية عن مؤشرات ترهل النظام الغربي، وحجم التباينات بين أعضاء المنظومة الدولية، إضافة إلى سقوط السمعة السياسية والأخلاقية للنظام الدولي أحادي القطبية عند كثير من شعوب العالم.
تباينات المصالح الأوروبية الأمريكية
تنظر أوروبا لنفسها على أنها كيان سياسي تاريخي في المعادلة الدولية أقدم من أمريكا وأكثر تجربة وخبرة، في المقابل تعمل أمريكا بشكل حثيث على الحيلولة دون بروز أي قوة أخرى، ولهذا عملت جاهدة على احتواء الاتحاد الأوروبي والحيلولة دون بروزه قطباً منفصلاً عن الولايات المتحدة الأمريكية، وأيدت في عهد “ترامب” انفصال بريطانيا عن الاتحاد، الذي تأزمت في عهده العلاقة الأمريكية بأوروبا، وأظهرها خصماً لأمريكا، إضافة إلى تداعيات كورونا التي أنهكت أوروبا وأمريكا في نفس الوقت، وتنامي دعوات اليمين المتطرف الذي يرغب في إغلاق الحدود بين دول الاتحاد الأوروبي.
وعلى الرغم من محاولات الرئيس الأمريكي الحالي تسوية ملفات الخلاف بين أمريكا وأوروبا وكسب التأييد الأوروبي، وخصوصاً ما يتعلق بشركتي إيرباص وبوينغ لصناعة الطائرات، بعد نزاع استمر 17 عاماً، فثمة ملفات أخرى لا تزال عالقة، وقد كشفت الحرب الأخيرة حجم التباين بين الحليفين، فأوروبا لا تريد قطيعة كاملة مع روسيا؛ لأنها تبدو غير قادرة على توفير بدائل سريعة عن الغاز الروسي، كما أن ألمانيا لا تريد أن تستمر ملحقة بأمريكا، في المقابل فإن أمريكا تريد إعادة أوروبا إلى بيت الطاعة بعد أن شعرت بدورها المنافس لأمريكا، وعلى الرغم من خطورة الحرب على الطرفين وقدرتها على توحيد جهودهما، فإنها في نفس الوقت كشفت تباينات المصالح الأوروبية والأمريكية.
الانكشاف الأمريكي
استطاعت الحرب الروسية الأوكرانية كشف القيم التي ادعت أمريكا كثيراً أنها جاءت لحمايتها، والمتمثلة في الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، وأثبتت أنها معايير عنصرية قائمة على الازدواجية والانتقاء، وتُطبق حيث يريد النظام الغربي، ومن قبلها أثبتت الحروب التي شنتها أمريكا في منطقة الشرق الأوسط عدم التوازن في النظام الدولي أحادي القطبية، كما أظهرت الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة اهتزاز الديمقراطية الأمريكية، وانقسام الشعب والمؤسسات الأمريكية التي كانت محط أنظار العالم.
هذا الانكشاف في القيم المعنوية التي حرصت أمريكا على تصديرها للعالم، لا يقل خطراً عن الانكشاف السياسي والعسكري، وقد أدى ذلك لبروز دعوات أمريكية لوضع حد لارتباطات أمريكا الخارجية، وهذه الدعوات تتلاقى مع رغبة عدد من الدول الكبرى في الحد من الهيمنة الغربية على العالم.
مآلات الحرب وانعكاسها على النظام العالمي
يبدو من الصعوبة بمكان الحكم على نتائج الحرب الروسية الأوكرانية؛ لكن في إطار سيناريوهات الحرب المتوقعة يمكن القول إن ما بعدها ربما لن يكون كما قبلها، وإن شكل النظام العالمي الجديد ستحدده هوية المنتصر سياسياً وعسكرياً، في ضوء سيناريوهات الحرب المتوقعة.
انعكاسات سيناريو السيطرة الروسية على النظام العالمي
على الرغم من أن هذا السيناريو يواجهه صمود الأوكرانيين في الميدان، والدعم العسكري الذي تلقوه، والعقوبات التي ستؤثر في روسيا؛ لكن يبدو أن بوتين بعد إعلان الحرب لن يترك أوكرانيا بلداً مستقلاً؛ لأن هذا معناه صناعة عدو حقيقي على الحدود، وفي حال استطاعت روسيا حسم المعركة لمصلحتها، فإن ذلك سيؤدي إلى تمكنها من الغرب الأوكراني الاستراتيجي.
والتمكن من أوكرانيا سيمكن روسيا من عدد من المكاسب تتمثل في تجميع قواتها على حدود بولندا وسلوفاكيا والمجر ورومانيا، وقد يدعوها هذا إلى ضم مولدوفا وإخضاعها لسيطرتها، وهذا الأمر سيهدد دول البلطيق؛ إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، وسيساهم في فصلها عن حلف الناتو، ما سيؤدي إلى الهيمنة الكبيرة لروسيا على أوروبا الشرقية.
ولأن نظام القطبين في حقبة الحرب الباردة قد تميز بالتنافس على أوروبا الشرقية وشرق آسيا، وقد توقف هذا التنافس عندما زال الخطر الروسي، فإن تشكل أي نظام عالمي جديد قد يبدأ بالانهيار الغربي في أوروبا الشرقية، الذي سيعقبه التوسع الروسي في عمق أوروبا، ما يعني نهاية النظام العالمي الحالي، حيث سيهيئ هذا السيناريو ربما الفرصة للقوى المنتصرة لإعادة تقاسم العالم، كما سيشجع الصين على ضم تايوان إليها، لتهيمن بذلك على جزء كبير من شرق آسيا، ومعه ستكون بداية نهاية الهيمنة الأحادية على النظام العالمي.
انعكاسات سيناريو الانكسار الروسي على النظام العالمي
هذا السيناريو يفترض انكسار روسيا نتيجة الدعم العسكري الذي تلقته أوكرانيا، وانضمام مقاتلين أجانب للجيش الأوكراني، ومع توازن القوى قد تنكسر روسيا أو تفضل الانسحاب خشية الاستنزاف أكثر، خصوصاً أن موسكو كانت تتوقع سقوطاً سريعاً لأوكرانيا. لكن يبدو أن خيار الانسحاب الروسي من دون مبررات كافية مستحيل.
هذا السيناريو في حال تحققه يظهر أنه سينعكس إيجابياً على حلف الناتو، حيث سيؤدي إلى إعادة التماسك بين أعضائه، واستمرار رصد الميزانيات لتطوير المجال العسكري، وانضمام دول أخرى للحلف، خصوصاً بعد طلب النرويج والسويد الانضمام، وسيعزز نجاح هذا السيناريو استمرار الهيمنة الغربية على النظام العالمي.
انعكاسات سيناريو الاستنزاف وتأثيره في النظام العالمي
يفترض هذا السيناريو استمرار الهجوم الروسي، ومعه سيستمر الدعم الغربي لأوكرانيا، ما يعني استنزاف روسيا في أوكرانيا أكثر، حتى في حال توصل روسيا إلى السيطرة على المدن الكبرى وتطويقها، فقد لا يكون الواقع مهيّأً للاستقرار أكثر، خصوصاً بعد امتلاك الشعب للسلاح، وإمكانية تحول المعركة إلى حرب عصابات مفتوحة، مقابل الخسائر الروسية العسكرية الكبيرة، والتكاليف السياسية والاقتصادية المهولة، والعقوبات الاقتصادية العالية، وفي ظل هذه الخسائر ربما لن تستطيع روسيا العودة للوراء دون مبررات واضحة، كما أن استمرارها يعني مزيداً من الخسائر، وهذا يعني تورط روسيا بمعركة أشبه بمعركة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان.
الغرب في نفس الوقت من المحتمل أن يتعرض لاستنزاف وإن كان أقل من الاستنزاف الروسي، خصوصاً فيما يتعلق بتبعات الحرب العسكرية والسياسية والاقتصادية، وملفات القتلى والجرحى واللاجئين، ويظهر أن الحماس الأوروبي في دعم أوكرانيا واستقبال اللاجئين يعود إلى تقديرِ وقتٍ أقل للمعركة، وفي حال استمرارها قد تؤدي إلى استنزاف الطرفين أكثر وظهور قوة ثالثة، في مشهد أشبه بسيناريو الحرب العالمية الثانية، حيث استمرت الولايات المتحدة الأمريكية حينها محافظةً على قوتها كدولة نامية، ولم تتدخل إلا في نهاية الحرب وبعد استنزاف الأطراف، وهذا ما مكنها من الهيمنة أكثر.
انعكاسات سيناريو الحلول الدبلوماسية على النظام العالمي
التحركات الدبلوماسية من المتوقع كذلك أن تنجح في التوصل إلى معادلة جديدة، خصوصاً مع العقوبات الاقتصادية التي تتعرض لها روسيا، وهذا السيناريو وإن كان نجاحه الكلي في تسوية الأزمة غير مرجح فإنه قد ينجح في إعادة الأزمة إلى بداياتها الأولى قبل بدء الحرب، كما أنه قد يمثل مخرجاً لروسيا في حال الشعور بالاستنزاف أكثر، وفي حال نجاحه على أية حال يظهر أنه سيعزز من الحضور التركي الخارجي، حيث تضطلع تركيا بدور بارز في هذا الملف، وقد نجحت جهودها الدبلوماسية في جمع وزيري الخارجية الروسي سيرجي لافروف، والأوكراني ديمترو كوليبا، وفتحت المجال أمام عقد لقاءات أخرى على مستوى رفيع.
وقد استطاعت تركيا أن تنتهج سياسة متوازنة تجاه الحرب الروسية الأوكرانية، بعد إعلانها رفض الحرب الروسية على أوكرانيا، ومنعت مرور السفن الحربية في مضايقها وفق بنود معاهدة “مونترو“، كما رفضت في الوقت نفسه الانضمام للمقاطعة الاقتصادية التي فرضها المجتمع الدولي على روسيا، وهذا الدور المتوازن يجعل تركيا دولة مؤثرة لدى جميع الأطراف، ويهيئوها لأداء أدوار مستقبلية.
الخاتمة
من المرجح أن تكون للحرب الروسية الأوكرانية تداعياتها على النظام العالمي؛ ولكن يبدو أن الكيفية والمدة التي سيأخذها النظام العالمي الحالي قبل بداية انهياره مرتبطة بنتائج المعركة ودور الأطراف الفاعلين فيها، ويظهر أن الحرب في أوكرانيا لن تكون العامل الأول والأخير في تغيير النظام العالمي، بل سبقته عوامل كثيرة، وقد يترتب على نتائج الحرب عوامل أخرى، تسهم على نحو من الأنحاء في إعادة تشكل نظام جديد، لكن على كل الاحتمالات يظهر أنه من المستبعد في ظل المعطيات الحالية خروج أمريكا من المشهد السياسي كاملاً، وقد تؤسس الأحداث في حال استمرارها مع نجاح سيناريو التفوق الروسي لتعدد الأقطاب في النظام العالمي.
الأوكرانية