جرت المرحلة الأخيرة من الانتخابات البرلمانية في لبنان يوم الأحد الموافق 15 مايو/أيار الجاري، وذلك بعد مشاركة المغتربين اللبنانيين في 58 بلداً، تنافست فيها 103 قوائم انتخابية ضمت 718 مرشحاً موزعين على 15 دائرة انتخابية. جاءت هذه الانتخابات في مرحلة مفصلية يواجهها لبنان، لكونها جاءت بعد سلسلة أزمات هزته خلال العامين الماضيين، أبرزها حالة الانهيار الاقتصادي المستمرة، والاحتجاجات الشعبية اللبنانية غير المسبوقة ضد مختلف الأطراف السياسية، بالإضافة إلى الانفجار الكارثي في بيروت. وقد ترتبت على هذه الحيثيات نتائج غير متوقعة، حيث خسر حزب الله أغلبيته، وبرزت فئات جديدة على المشهد السياسي اللبناني.
يبحث تقدير الموقف في السياقات التي أدت إلى خسارة حزب الله لأغلبيته البرلمانية، وما الانعكاسات الداخلية والخارجية المترتبة على هذه النتيجة؟
سياقات الانتخابات اللبنانية البرلمانية لـ2022
يعد النظام السياسي في لبنان من الأنظمة المعقدة؛ نظراً لطبيعة المحاصصة الطائفية التي تسهم في تعقيد طبيعة التوازنات بين الأحزاب والطوائف المسيحية والمسلمة من جهة، والمذاهب ضمن هذه الطوائف من جهة أخرى، غير أن التحديات الأخيرة التي برزت في المشهد اللبناني قد تكون السبب في النتائج غير المتوقعة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، حيث حصل تحالف 8 آذار، الذي ضم كلاً من: حزب الرب، وحركة أمل، والتيار الوطني الحر، وتيار المردة، على 60 مقعداً من أصل 128 مقعداً، في حين حصل على 71 مقعداً في انتخابات 2018. وحصل تحالف 14 آذار، الذي ضم كلاً من: القوات اللبنانية، والحزب التقدمي الاشتراكي، وحزب الكتائب، وسنة 14 آذار، على 42 مقعداً. في حين حصلت فئة المستقلون على 14 مقعداً، والتيار المدني على 12 مقعداً. وبحصول فئة المستقلين والتيار المدني على مقاعد داخل البرلمان برز متغير جديد في المشهد السياسي اللبناني.
ارتبطت هذه النتائج بالتحديات التي شهدها لبنان خلال العامين المنصرمين، ومن أبرز تلك التحديات:
– حالة الانهيار الاقتصادي المستمر
إذ برزت الأزمة الاقتصادية جلياً في عام 2019، عندما انهار النظام المالي تحت وطأة الديون السيادية والطرق غير المستدامة التي كانت تمول بها، وتراجع الناتج الإجمالي المحلي إلى ما يقدر بنحو 20,5 مليار دولار في 2021 من نحو 55 مليار دولار في 2018، وهو نوع من الانكماش الذي عادة ما يصاحب الحروب، على حد وصف البنك الدولي، الذي صنف هذا الانهيار المالي بأنه من الأسوأ في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. وفقدت الليرة اللبنانية أكثر من 90 في المئة من قيمتها، وهو ما رفع تكلفة كل شيء في الدولة المعتمدة اعتماداً قويّاً على الواردات، وقوض القوة الشرائية للعملة. ونتيجة لفشل الجهات السياسية في تقديم خطة إنقاذ، واستمرار تدهور الوضع، اندلعت احتجاجات شعبية في مختلف ضواحي لبنان، وأثرت على الجانبين السياسي والأمني.
– الانفجار الكارثي في بيروت
انفجار بيروت، الذي حدث في 4 أغسطس/آب 2020 وتسبب في وفاة 217 شخصاً وإصابة نحو 7 آلاف آخرين، تسبب في حدوث دمار شامل طال مختلف المؤسسات والبنى التحتية. وقدرت الخسائر التي ترتبت على هذا الانفجار بحوالي 42 مليون دولار، حيث بلغت التكاليف الإجمالية لإعادة المدارس المتضررة أكثر من 22 مليون دولار، في حين قدرت تكاليف تأهيل الجامعات المتضررة، والمعامل والمعدات، بأكثر من 14 مليون دولار أمريكي.
مثَّل الانفجار وتداعياته وصمة في المشهد اللبناني ككل، إذ كشف عن ملفات فساد مختلفة ارتبطت به، منها ما تعلق بسوء إدارة الميناء، ومنها ما تعلق بإعاقة وتشويه عملية الاستقصاء والتحقيق نظراً لنفوذ بعض الجهات والشخصيات اللبنانية في مختلف المؤسسات الرسمية. إذ في منتصف سبتمبر/أيلول 2021 علق القاضي طارق بيطار تحقيقه في قضية انفجار مرفأ بيروت لحين بت القضاء بدعوى تقدّم بها الوزير السابق نهاد المشنوق، يطلب فيها نقل القضية إلى قاض آخر. وسبق تعليق التحقيق تعليق آخر نتيجة للضغوط التي مارسها حزب الله قبيل البدء بجلسات الاستجواب التي كادت تطال مسؤولين عسكريين وسياسيين.
انعكاسات خسارة حزب الله الأغلبية النيابية على المشهد السياسي
خسارة حزب الله وقوى 8 آذار الأغلبية في البرلمان سيكون لها انعكاسات متباينة على المستويين الداخلي والخارجي في المشهد السياسي اللبناني، ومن أبرز الانعكاسات الداخلية ما يتعلق بالنقاط التالية:
– الانعكاسات الداخلية
تتعدد الانعكاسات الداخلية المرتبة على خسارة حزب الله لأغلبيته؛ منها ما يرتبط بالجانب السياسي، ومنها ما يرتبط بالجانب الأمني، ومنها ما يرتبط بالجانب الاقتصادي.
– الانعكاسات السياسية
من أبرز الانعكاسات التي طرأت على المشهد السياسي اللبناني عقب الانتخابات البرلمانية الأخيرة هو غياب الكتلة السنية من المشهد السياسي، إذ إنها لم تعد مجموعة سياسية أساسية واحدة كما كان عليه الأمر مع الحريري الأب ومن ثم الابن. وعقب إعلان رئيس الوزراء السابق سعد الحريري تعليق نشاطه السياسي لم يشارك تيار المستقبل في الانتخابات، كما لم يتمكن أي طرف منفرداً من تحويل رصيد الحريري الشعبي إليه أو أن يكون وريثه السياسي على الساحة السنية.
من جهة أخرى أفرزت الانتخابات البرلمانية الأخيرة ظهور أكثريات هجينة، تضم مختلف الفئات ضمن تكتل واحد، أي لم تعد الأغلبية في صف أحد، وهذا بدوره سيغير من شكل التحالفات داخل قبة البرلمان بحسب القضايا المطروحة، بحيث يكون التقاطع والتنافر بين الأطراف المختلفة غير ثابت. بالإضافة إلى ذلك فإن غياب الأغلبية الواضحة يعني تعطيل كثير من القرارات، التي ستكون مرهونة ومرتبطة بتأثير تركيبة كهذه على القدرة على اتخاذ القرارات وإدارة شؤون البلاد. فلبنان يواجه حالياً تحديات كبيرة أبرزها استحقاق تشكيل حكومة، وانتخاب رئيس للجمهورية بعد خمسة أشهر، وما بينهما من تحديات مرتبطة بالوضع الاقتصادي والمالي، والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وترسيم الحدود البحرية مع الكيان الإسرائيلي، وغيرها من الأمور التي تحتاج إلى مؤسسات دستورية فاعلة للبت فيها.
– الانعكاسات الأمنية
خسارة حزب الله لأغلبيته في البرلمان تعد مؤشراً واضحاً على تراجع إمكانيته في السيطرة على البرلمان وعلى الحكومة ومؤسسات الدولة، وهذا التراجع يعكس وجود حالة إحباط وتململ شعبي من الفئات الموالية للحزب نفسه. من جهة أخرى فإن حوالي الربع أو أكثر من تشكيلة البرلمان الجديدة تنتمي لفئات مناهضة لحزب الله والنفوذ الإيراني الذي يحركه، وفي ظل عدم وجود أغلبية قد يتم تعليق كثير من القرارات السياسية، وهو ما سينعكس بالضرورة على الجانب الأمني في الداخل اللبناني.
وقد شهد لبنان تداعيات أمنية عدة عقب حدوث احتقانات سياسية بين الفرقاء السياسيين، كما أن نظام المحاصصة الطائفي ينبئ بإمكانية تدهور الجانب الأمني ولجوء بعض الأطراف السياسية – على غرار حزب الله- إلى استخدام السلاح في حال وصلت مسألة تنفيذ القرارات السياسية إلى أفق مسدود.
– الانعكاسات الاقتصادية
المعاناة الاقتصادية للبنان لم تظهر في 2019، بل هي ظاهرة مزمنة صاحبته منذ الحرب الأهلية بين 1975 و1990، ولم يتمكن لبنان من تحقيق استقرار اقتصادي نتيجة لعدة أسباب، منها ما يتعلق بحالة الاستنفار الأمني التي تعيق أي مسألة تنمية داخلية، ومنها ما يتعلق بقضايا فساد تورطت فيها مختلف التيارات السياسية.
وعقب توالي الأزمات الاقتصادية، وفشل السياسيين في تقديم خطة إنقاذ وطني، أصبح الوضع مقلقاً للأطراف الداخلية والخارجية على حد سواء. لكن نتائج هذه الانتخابات قد تفتح أفقاً من أجل تجاوز إشكالية الأزمة الاقتصادية؛ فتراجع نفوذ حزب الله يعني ضعف محور النفوذ الإيراني، وهذا بدوره قد يسهم في تقوية نفوذ محور السعودية ودول الخليج، وهو ما قد يسهل عملية اعتماد وتمويل خطط الإنقاذ الوطني لتجاوز مرحلة الأزمة الاقتصادية الحالية.
– الانعكاسات الخارجية
بالمقابل سيترتب على نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة وخسارة حزب الله لأغلبيته انعكاسات على المستوى الخارجي، إذ عُدَّت هذه النتيجة ضربة للنفوذ الإيراني في لبنان، بعد أن خسر حليفها أغلبيته المريحة. في حين عُدت فرصة لمحور السعودية ودول الخليج لاستعادة نفوذه في الداخل اللبناني. وخلال الفترة الماضية ابتعدت السعودية عن لبنان بشكل كبير، بعد أن أنفقت المليارات لكسب النفوذ غير أنها لم تر شيئاً سوى صعود حزب الله في لبنان وتوسع نفوذ إيران الإقليمي من خلال وكلاء آخرين في كل من اليمن والعراق.
ومع انقسام البرلمان يبدو أنه من الصعب على حزب الله وحلفائه توجيه جدول أعمال تشريعي يتضمن انتخاب رئيس يخلف الرئيس ميشال عون، وهو مسيحي متحالف مع حزب الله، في وقت لاحق من هذا العام. وهو ما سيؤثر في الأداء السياسي في الداخل اللبناني، وستكون له انعكاسات أمنية مرتبطة بصراع النفوذ الإقليمي بين كل من السعودية وإيران. وعموماً يبدو أن نتائج الانتخابات قد تسهم في تحسين الوضع اللبناني، خصوصاً إذا تبنت دول الخليج ضخ أموال لتحسين الوضع الاقتصادي، لكنها- رغم جهودها- لم تحل مشكلة هيمنة حزب الله.
وعلى الرغم من أن هذه النتيجة تقوي موقف السعودية أكثر مما حدث عقب انتخابات 2018، فإن مسألة انشغالها بمواجهة النفوذ الإيراني في اليمن تقلل من أهمية لبنان في سياستها الأمنية، على الأقل في الوقت الراهن. بالمقابل الموقف الإيراني يعطي لبنان أهمية استراتيجية لكونه يضم حزب الله؛ الوكيل الأكثر نفوذاً، وولاءً، لها في المنطقة العربية.
خاتمة
خسارة حزب الله، وقوى 8 آذار، لأغلبيته البرلمانية ربما لن يكون لها تأثير مباشر وقريب في المشهد السياسي اللبناني، لكن قد يترتب عليها تغيرات جذرية في الواقع السياسي والاقتصادي على المدى البعيد، خصوصاً بعد حدوث إعادة توازن سياسي بقدوم شخصيات من خارج دائرة توازن القوى السياسية التقليدية. غير أن حدوث مثل هذا التغيير مرهون بمدى قدرة الشخصيات المستقلة على تجاوز الخلافات الأيديولوجية من أجل تشكيل كتلة ثالثة تمثل صوت الشعب مقابل ارتهان القوى الأخرى لتوازنات الخارج، كما أنه مرهون بقدرة هذه الكتلة على إيجاد حلول حقيقية للملفات المستعصية التي تعيق استقرار لبنان باستمرار.
من جهة أخرى قد تفقد هذه الكتلة السياسية الجديدة أهميتها في حال فشلت في التعامل بواقعية مع التحديات المستعجلة، التي أُجلت مراراً وتكراراً من قبل البرلمان السابق، أو في حال لم تتوافق على مشروع جامع بينها يتجاوز الاختلافات الأيديولوجية والمذهبية. كما أنها قد تواجه خطر إفشالها من قبل التيارات السياسية التقليدية، التي ترى في بروز مثل هذا التيار تحدياً لمصالحها الداخلية والخارجية على حد سواء.