ليس من التناقض أن ينبذ الإنسان فكرة الحرب وفي الوقت ذاته نجده على مر التاريخ ينزع إليها، لذلك لم تكن الحرب ومفهومها يوماً من باب الترف الذهني للأمم، ولعل الإسهامات الغزيرة لعلماء الاستراتيجية في فنون الحرب تترجم إدراك الشعوب والأمم للحرب على أنها ضرورة لتحقيق الأهداف والبقاء، وأساليب للدفاع، لكن السؤال الجوهري الذي يُطرح بصورة ملحة: إذا كانت الحرب حاجة ضرورية للإنسان فما الجوانب الإيجابية لها؟
قد يكون سؤالاً ساخراً، لكن في واقع الأمر، وبعد الغوص في هذا الاستفهام، سيتكشف لنا مدى منطقية هذا السؤال وأهميته. وهو سؤال طرحه المغني الأمريكي إدوين ستار (Edwin Starr) في أغنية شهيرة سنة 1970، عنوانها “ما هو الجيد في الحرب؟“. ويمكن من خلال هذه الأغنية فهم مدى انشغال الرأي العام الأمريكي وقتها بخصوص الحرب؛ وهل فعلاً ما يقوم به حكامهم من حروب له فائدة؟ ليعود الكاتب الأمريكي إيان موريس (Ian Morris) ويعيد طرح تساؤل الأغنية في كتاب له سنة 2014، بعنوان: “الحرب! ما فائدتها؟” (War! What Is It Good For)، حيث ناقش فوائد الحرب في مؤلفه مبرراً أن السلام والتطور الذي نعيشه حالياً هو بسبب الحروب السابقة، وأن تناقص الحروب في القرون الأخيرة سببه الحروب التي اندلعت سابقاً[1]، وفي هذا السياق يتفق موريس مع الوظيفيين والليبراليين في فكرة أن الحربين العالميتين كانتا سبباً في جنوح أوروبا إلى الاتحاد ونبذ الحرب.
كتب عالم النفس الأمريكي وليام جيمس (William James)، سنة 1910، مقالاً استوحاه من محاضرة ألقاها في جامعة استانفورد عنوانها: “المعادل الأخلاقي للحرب” (the Moral Equivalent of War)، حيث نبذ الآثار السيئة للحرب والدمار والقتل الذي تخلفه، وفي نفس الوقت أشاد بالأمور التي تقوم عليها الحرب، كالانضباط والقومية، وتنفيذ الأوامر، والصرامة، بوصفها الفضائل العسكرية التي تعد الإسمنت الذي يجب أن تبنى عليه الدول، إذ رأى أن الحرب -على رغم سلبياتها- تخلق أموراً إيجابية وتدعم الهوية والشعور الإيجابي بتوحد أبناء الشعب الواحد وإحساسهم بالتهديد المشترك، فتسود روح الجماعة ولا تنخرط من ثم الجيوش وحدها في الحرب فقط؛ بل تلحقها النخب الأخرى وتندمج في الحرب، فتخلق حالة من التعاضدية والتماهي في الأهداف[2]، وبهذا قدم جيمس مقاربة المعادل الأخلاقي بوصفها مقاربة انتقائية بالاستفادة من القيم الإيجابية للحرب وتحييد خاصيتها في القتل والتدمير، ومن ثم يقر بضرورة بقاء الحرب لكن بشروط.
ولعل المعادل الأخلاقي ظهر في سياسة أوباما بعد حادثة التسرب النفطي في خليج المكسيك، التي حشد فيها أوباما الشعب الأمريكي وأشعرهم بأن هذه الحادثة بمنزلة الحرب عليهم، فترسخت الفضائل العسكرية داخل المجتمع الأمريكي دون وجود عمل عسكري فعلي، رغم أن توجه أوباما ليبرالي إلا أنه لم ينكر حاجته إلى مميزات الحرب الإيجابية[3].
ليست مجرد لعبة
قد تكون الكرة لعبة في بدايتها، لكنها تفاعلت مع عدة أحداث جعلتها فاعلاً في السياسة والمجتمع، والأمثلة على ذلك كثيرة لا يمكن عدها، منها مثلاً نشأة فريق “مانشستر سيتي” سنة 1875، فقد أُسس بناءً على الحاجة الماسة إلى مواجهة ظاهرة العصابات وانتشار الجريمة المطرد في المدينة، وذلك عن طريق خلق متنفس بديل للجماهير[4]. وكذلك فإن اللاعبين الإنجليز شكلوا كتيبة اللاعبين في الحرب العالمية الأولى 1914، وقدموا تضحيات جسيمة[5]. وبالنسبة للنازيين كانت الكرة مسألة شرف دولة؛ ومن ثم هددوا فريق دينامو كييف الأوكراني، في عام 1942، بأنهم إذا تغلبوا على منتخب ألمانيا النازية فإنهم سيموتون، في حين أن تحمُّس الأوكرانيين لشرف بلدهم دفعهم إلى الانتصار على النازيين، وأُعدم اللاعبون وقتها في الملعب مباشرة. وفي إسبانيا لعب فريق برشلونة الكاتالاني وعرَّف العالم بقضيته، وقوبل بقمع الجنرال فرانكو الذي أسس بدوره فريقاً محبباً له يوازن به تهديد برشلونة، فدعم فريق ريال مدريد الذي اعتُبر سفيراً لفرانكو في العالم. وفي 1958 لأول مرة أسست جبهة التحرير الجزائرية فريقها القومي بالألوان الوطنية الجزائرية، مؤكدة هوية الدولة والشعب الجزائري. وفي سنة 1986 كانت مباراة كرة قدم بين الأرجنتين وإنجلترا كفيلة برد الثأر للأرجنتينيين وانتقام “مارادونا” من الإنجليز في حرب جزر فوكلاند[6].
إن ما قدمته الكرة من حماس ووحدة للشعوب وتعصبها لقومياتها تحت علم الدولة الواحد، لهو نفس التأثير والفضائل العسكرية التي تكلم عليها جيمس وليام، فهل يمكن أن تُعدَّ الكرة معادلاً أخلاقياً للحرب[7]؟
قطر 2022 رياضة ورسائل سياسية
قبل سنة من انطلاق مونديال 2022، نظمت قطر كأس العرب بحيث يكون تجربة مسبقة للمونديال، وهي منافسة رسخت منطق عروبة المنطقة عندما استثنيت فواعل إقليمية من اللعب فيها، وهو ما يتعارض مع طروحات التوجه الشرق أوسطي على حساب الطرح العربي، والمثير في ذلك كيف للفيفا -التي تعد هيئة دولية وليدة النظام العالمي الرافض لمنطق عروبة الشرق الأوسط- أن ترعى منافسة تعاكس مفهومها للمنطقة. إضافة إلى ذلك فإن تقديم قطر لملاعب المونديال المحترِمة لضوابط التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة، قدمت نسخة للمونديال صديقة للبيئة مثبتة للعالم بأنها منخرطة في مشاكل البيئة العالمية.
حان الموعد وانطلقت صافرة البداية، مع التركيز على الطابع العربي الإسلامي، مرفوقاً بضوابط تفرض احترام ثقافة قطر والمنطقة العربية وخصوصيتها الدينية والحضارية، وحملت الفرق المشاركة في نفس الوقت معها إلى الدوحة قضايا تدافع عنها إضافة إلى مهمتها الرئيسة وهي الدفاع عن العلم الوطني، وقوبلت هذه الفرق بالضوابط القطرية التي رفضت أي فكرة خارج الرياضة؛ كالترويج لأفكار معينة، وهو ما شكَّل صداماً حضارياً بين بعض الفرق المشاركة والبلد المنظم، فتوحدت المشاعر في كلا صفوف الطرفين.
إضافة للأهداف في الشباك سُجل أيضاً في المونديال متغير صحوة الفرق الآسيوية والإفريقية في وجه الفرق المتربعة على هرم الكرة، فسقطت البرازيل، والأرجنتين في أولى مبارياتها، والبرتغال، وإسبانيا، وألمانيا، وفرنسا، أمام فرق إفريقية وآسيوية، وكأن الشعوب رافضة لميزان القوى العالمي الحالي الجائر، فشجع الأفارقة الفرق الإفريقية، وشجع العرب الفرق العربية، وكأنها تحالفات تشعر بالتمايز والاختلاف عن الآخر، دون نسيان أن أغلب هذه الفرق كانت تعاني وطأة تفوق الرجل الغربي، فَوَجدت في الكرة متنفساً لتلبية مشاعر الانتصار والرفض والانعتاق.
إن الهدف الأكثر إثارة في المونديال هو الذي سجلته قطر حين أُلبِس “ميسي” البشت العربي قبل رفع الكأس، وما لذلك من رسائل ودلالات قوية لا يختلف عليها اثنان.
لقد كان مونديال قطر شبيهاً بالحروب التقليدية، لكن يختلف عنها من حيث الطريقة والمكان والنمط، إذ تدار سِجالاته داخل الملاعب، والغلبة ليست فقط لمن يربح المباراة، بل لمن يفقه جيداً معادل الحرب الأخلاقي ولو خرج خاسراً. وما يتضح في هذا المونديال أنه لم يكن لعبة صفرية وإنما أعطى نمطاً جديداً للتنافس الأيديولوجي، كل فاعل فيه له مسار لا يتقاطع مع مسار المنافس، والنصر هنا للأقوى لا لمن يسقط من جراء صدامه مع الآخر، فهل يكون مونديال قطر طفرة وتجسيداً فعلياً لمنطق معادل الحرب الأخلاقي؟
[2] https://www.laphamsquarterly.org/states-war/proposing-moral-equivalent-war
[6] انظر: إدواردو غاليانو، كرة القدم في الشمس والظل، ترجمة صالح علماني، دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، ط1، 2022.