تتباين الميولات والاهتمامات من بيئة اجتماعية إلى أخرى، إذ يبحث الإنسان الناشئ ضمن بيئته وضمن بيئات أخرى عن مثلٍ أعلى يحتذي به، ويحاول أن يتقمَّص شخصيته وسلوكياته بشكل يجعله صورةً عن هذا المثل.
والمثل الأعلى مفهوم نسبي ومتغير، ويختلف من بيئة لأخرى ويتبدل مع مرور الزمن وتحولاته، وتقدُّم عمر الإنسان وتغيُّر اهتماماته، وهو مهمٌّ بالنسبة للفرد والمجتمع؛ لأنَّ له دوراً رئيساً في توجيه سلوك الإنسان وتحريكه، وليس هذا فحسب؛ بل إنَّ المثل الأعلى يشغل حيزاً كبيراً من مساحة اللاوعي عند الإنسان، وهذا اللاوعي- حسب تعبير سيغموند فرويد- هو المحرِّك الحقيقي لسلوك الإنسان الواعي.
علَّة التبدلات
شهدت المنطقة العربية في العقد الأخير تبدلات كثيرة؛ سياسية واقتصادية واجتماعية، ترافقت معظمها مع ثورة التواصل الاجتماعي والانفتاح على عالم السوشيال ميديا، وهو ما أوجد عالماً موازياً للعالم الذي تعيشه هذه الشعوب يمكنهم استخدامه ملجأً للهروب من الواقع، ولا سيما أنَّ أغلب هذه المجتمعات تعيش حالة من التدهور الاقتصادي، وغياباً لفرص العمل، في ظلِّ انتشار البطالة واتساعها، وفي ظلِّ الصدمة التي تعرَّض لها عدد من البلدان العربية تصحبها ضبابية نتائج ثورات الربيع العربي، وغياب الاستقرار السياسي في المنطقة. كلُّ هذه الظروف تسببت في حدوث تبدلات عميقة في البنية الذهنية لهذه الشعوب، ارتبطت هذه التبدلات بدلالات مفهوم القيم الأخلاقية والاجتماعية التي كانت تُنتج مفاهيم نسبية لهذه الشعوب، وعلى الرغم من نسبيتها فإنها كانت من محددات الهوية الخاصة بهذه المجتمعات.
ولعلَّ مفهوم المثل الأعلى أو القدوة من أبرز المفاهيم التي طرأت عليها تغيرات كبيرة، فكل ما كانت تعلِّمه كتب التاريخ والتربية الاجتماعية والوطنية من قيم طاله التشويه، وكل ما كانت تقدِّمه من نماذج أخلاقية وشخصيات تركت بصمتها في نفوس الأجيال سنوات طويلة اهتزَّ واعتراه التغيير في ظلِّ موجة تبدلات كبيرة طالت كلَّ ميادين الحياة من دون أن تستثني شيئاً، وبعد أن كانت أسماء الأبطال والرموز الدينية أو القومية محلَّ فخر الشباب الناشئ أصبح محلُّها التجاوز والتهميش؛ بسبب شعور الشباب بحالة من الانفصال بين هذه الأمثلة العليا وبين الواقع من جهة، وبسبب ما تعرضت له هذه النماذج من تشويه سواء أكان هذا التشويه غير متعمد أو كان متعمداً ومقصوداً، من جهة ثانية.
والأمثلة على سياسة تشويه الرموز كثيرة، وفي الغالب تقف خلف هذه المنهجية الأنظمةُ السياسية الحاكمة في المنطقة العربية؛ ليتماشى ذلك مع ما تسعى إليه تلك الأنظمة من فرض تفرُّدها المطلق، فمثلاً منذ أربع سنوات ظهر الممثل السوري عباس النوري، المعروف بموالاته للنظام الديكتاتوري الحاكم في دمشق، عبر إذاعة محلية (المدينة إف إم) ليهاجم البطل التاريخي صلاح الدين الأيوبي ويصفه بـ(الكذبة)، ويشكك في انتصاره وتحريره للقدس، مطالباً بإزالة تماثيله. وكذلك انتشار ظاهرة تشويه تماثيل وصور الشخصيات التاريخية في مصر، التي بدأت منذ سنتين، لا سيما عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كذلك أُنتِجت في مصر مجموعة من الأعمال الدرامية أساءت لعدد كبير من الشخصيات التاريخية، كمسلسل “الجماعة”، الذي يسيء لجامعة الإخوان المسلمين، ومسلسل “إمام الدعاة” الذي يحاول تشويه صورة الشيخ محمد متولي الشعراوي، وغيرها من محاولات التشويه والتحريف التي طالت الحقائق التاريخية ورموز التاريخ بحجة حرية الرأي والنقد، أو بحجة عدم نقل التاريخ بأمانة علمية.
المثل الأعلى اليوم
إنَّ الناظر اليوم إلى مفهوم المثل الأعلى في البلدان العربية سيجد أنَّ توجُّه الشباب لمثالين رئيسين صارا مطمحاً لهم، المثل الأعلى الأول هم مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يتابعهم الآلاف بل الملايين من الشباب ويقتدي بهم، ويحاول أن يكون منهم. ونحن لا نستطيع أن ننكر أثر هؤلاء المشاهير وقوة تأثيرهم؛ ففي بداية عام 2022 تعاونت مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة مع اليوتيوبر الكويتي حسن سليمان الملقَّب بـ”أبي فلَّة” عبر حملة “لنجعل شتاءهم أدفأ” على موقع يوتيوب، وجمع أبو فلة 11 مليون دولار لهذه الغاية، كما شارك الناشط القطري غانم المفتاح عبر وسائل التواصل الاجتماعي بحفل افتتاح كأس العالم الذي أُقيم في قطر عام 2022، وغيرها من الأمثلة التي استخدم فيها السياسيون المشاهير للترويج لمشروعاتهم، كالنظام الحاكم في سورية الذي استغلَّ مشاهير التواصل الاجتماعي، بالإضافة لما عرف عنه من استغلاله للممثلين والأعمال الدرامية لتحقيق التنفيس السياسي والظهور بمظهر الديمقراطي، كما هو حال الناشط “بشار برهوم” الذي كان ينتقد أداء الحكومة وبعض الشخصيات دون المساس بشخص رئيس النظام الأسد، وقد ظهرت ازدواجية شخصيته بوضوح عند خروج المظاهرات في مدينة السويداء، التي انتهت بالمطالبة بإسقاط النظام، فخرج برهوم مهاجماً لها وزاعماً أنَّها عميلة لمصلحة قوة أجنبية خارجية، وهذه هي التهمة ذاتها التي يلفقها النظام لكلِّ معارض أو ثائر ضده.
أما المثل الأعلى الثاني فهم نجوم الرياضة عموماً، ونجوم كرة القدم خصوصاً، إذ يحظى هؤلاء بشعبية منتشرة بين ملايين الشباب في العالم العربي، وقد قام عدد من رجال الأعمال العرب باستثمار أموالهم في أندية أوروبية، وانتقلوا بنشاطاتهم إلى الساحة العربية، حيث بدا ذلك ظاهراً بوضوح من خلال افتتاح عدد كبير من المحطات الرياضية، واستضافة بطولات رياضية مقابل مبالغ كبيرة جداً، ولعل أبرزها استضافة قطر بطولة كأس العالم في نهاية عام 2022 وقد أنفقت قطر حوالي 220 مليار دولار[2] لتهيئة البنية التحتية احتفاء بهذه المناسبة، وكذلك لجوء نادي النصر السعودي إلى استقطاب نجم الكرة البرتغالي وأفضل لاعبي العالم كريستيانو رولاندو، وقد أصبح الأخير محط اهتمام كل الشباب في المنطقة العربية، بل أصبح مقصداً لعدد كبير من الشخصيات السياسية والدينية كما شاهدنا بعض الدعاة المشهورين ينشر صوره معه، إذ تفاخر بنشر صوره مع اللاعب البرتغالي، وكذلك استعداد نادي الهلال السعودي للحصول على النجم العالمي الآخر الأرجنتيني ليونيل ميسي، إضافة إلى تهيئة العراق لاستضافة بطولة كأس الخليج العربي (خليجي25)، بعد أن انقطع عن استضافة أي حدثٍ رياضي منذ أكثر من ثلاث وأربعين سنة ماضية.
ختاماً
يقول المفكر محمود أمين العالم في مقدمة كتابه (الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر): إن «التضليل الفكري وتزييف الوعي وخلط الأوراق الأيديولوجية من بين أخطر الوسائل والأسلحة لتكريس تخلُّفنا وتبعيتنا»، إذ إن التبدلات الكبيرة التي طالت المثل الأعلى في المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة ستؤدِّي حتماً إلى تزييف الوعي الذي يستهدف هذا الجيل والأجيال القادمة، وما من شأنه تعزيز الهزيمة في إرادة الشباب، التي تسعى العولمة لترسيخها بكل الوسائل الممكنة؛ “من خلال تكريس التبعية بفضل الاختراق الثقافي واستقطاب الأجيال الصاعدة بدغدغة غرائزها وتوجيه ميولها وتسطيح أفكارها.. للوصول إلى زعزعة الثقة ثم محو الشخصية ومقومات الآخر”[3]، فيتكوَّن نتيجة ذلك شكلٌ من الوعي الزائف، ويغيَّب دور الأفراد في مناقشة القضايا الحقيقية التي تمسُّ حياتهم، فلا نقد ولا حوار، وهو ما يجعل الوعي في حالة من الغياب واللافاعلية، فيصبح الشعور بالسلبية والدونية والانغلاق على مثل أعلى زائف سمة فكرية.
[2] إسلام مصطفى، هل أنفقت قطر 220 مليار دولار على كأس العالم؟، جريدة المال، القاهرة، 20/11/2022، في: https\2u.pw/BxPlAJ
[3] نجوى عميرش، العولمة وتأثيرها على منظومة القيم، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة الأخوة منتوري في قسنطينة، الجزائر، العدد47، يناير/كانون الثاني 2017، ص36.