لم يكن السودان استثناء في سياق مناخ التغيير الثوري في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، فسرعان ما هبت رياح الثورة في شتاء ديسمبر/ كانون الأول 2018؛ نتاجاً لصعوبات اقتصادية معيشية، وأسباب أخرى سياسية. بطبيعة ميكانيزم الثورات فإن القوى التي تُنجز الثورة على الأرض ليست بالضرورة أن تكون هي من تؤول إليها مقاليد السلطة. وبهذا المعنى ذهبت السلطة للمنظومة الأكثر تنظيماً وتحتكر آلة العنف، وهي المجلس العسكري في السودان. لاحقاً، توصلت التنظيمات السياسية والمدنية التي عملت على الأرض إلى اتفاق قِسمة سُلطة وتحديد مرحلة انتقال خمس سنوات.
محطات الانتقال
أحد أهم مُنتجات ثورة ديسمبر/ كانون الأول 2018، كان هو نموذج الشراكة بين التكوين العسكري في الدولة السودانية وتجمع المدنيين في الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني، عن طريق مُمثليهم تحالف قُوى إعلان الحرية والتغيير. وشهد العام 2019 توقيع الوثيقة الدستورية المؤسِّسة لتقاسم السلطة في السودان بقوة دفع ثورية. لاحقاً، مر هذا النموذج باختبارات حقيقية نجح في بعضها وفشل في أخرى. إجمالاً، كانت أهم ملامح تِلك الفترة هي طغيان التكوين العسكري على المكون المدني، وتمَثَّل ذلك بالانفراد بملفات السياسة الخارجية، والسيطرة على ملفات السياسة الاقتصادية والنقدية، ربما ذلك بسبب ضعف القيادات المدنية أو عدم توافقها على برنامج اقتصادي أو طبيعة الإدارة العسكرية. هذا التداخل أدى في نهاية المطاف إلى تجاذبات جِدية بين الشركاء ظهرت على الشاشات والصحف، وسرعان ما أنتجت هذه المواجهة انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول (كما يُسميه بعض المدنيين)، وإجراءات 25 أكتوبر/تشرين الأول كما يُعرفه العسكر، هذه العملية أنهت أولى محطات الانتِقال في السودان، وهي الوثيقة الدستورية وأطرافها.
اتفاق حمدوك -2021
بُعيد استلام العسكر لكامل السلطة في الخرطوم عُلِّقت عضوية السودان من الاتحاد الإفريقي، وتوالت بيانات الاستنكار والإدانة، إلا أن الأسوأ كان قطع المُساعدات المالية للسودان، وتوقفت برامج إعفاء الديون، بالإضافة إلى تعليق التفاهمات مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فهبطت العملة مُقابل الدولار، وساءت الأوضاع الاقتصادية أكثر. وعلى هذه الخلفية، تم توقيع اتفاق سياسي عُرف لاحقاً باتفاق حمدوك في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، إلا أن هذا الاتفاق أيضاً لم يصمد بفعل المعارضة الشديدة من القوى المدنية التي تُدير الانتقال مع المكون العسكري. من هذه النقطة مضى العسكر بإدارة الحكومة عاماً كاملاً أو يزيد، بالشراكة مع قوى السلام (وهي قوى كانت قد وقَعت اتفاق سلام في 2020، حصلت بمُوجبه على مقاعد وزارية).
الاتفاق الإطاري – ديسمبر/كانون الأول 2022
في نهايات العام المنصرم تم توقيع اتفاق إطاري بين المكون العسكري وقوى الحرية والتغيير يفضي إلى رجوع العسكر للثكنات وتشكيل حكومة بقيادة مدنية، بالإضافة لمقاربة قضايا العدالة الانتقالية، وتفكيك بِنية النظام السابق ومعالجة ملفات الإصلاح الأمني والعسكري. في هذا الاتفاق قسمت قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي القوى السياسية الأخرى إلى قُوى ثورة وقوى انتقال، بغية توسيع قاعدة المشاركة السياسية، ومن ثم اتساع الحاضنة الاجتماعية للحكومة الانتقالية المزمع تشكيلها.
اللافت هنا أن هذا الاتفاق بقدر ما أدخل قُوى جديدة أحدث تصدعات بين قوى الحرية والتغيير والقوى الموقعة على اتفاق السلام، واختلافات أخرى بين قوى التغيير نفسها، فضلاً عن التبايُن العميق مع قوى ثورية جذرية حول التوسل إلى السلطة بالتفاوض، وفي هذه المحطة كانت النقلة من الثورة للسياسة.
ديناميات السياسة الانتقالية
في بِدايات الانتقال كانت اللحظة الثورية حاضرة بقوة، تحرك تحت تأثيرها السياسي السودان، إلا أنه وبمرور الوقت انتبهت بعض المكونات السياسية لخفوت المنطق الثوري، وهو ما يلزم معه البحث عن صِيغ أُخرى للتدافع السِّياسي.
مُحركات السياسة المعاصرة تفرض نوعاً من التشبيك الاقتصادي والسياسي في الفضاء الإقليمي والدولي بطبيعة الحال. بالنظر للوضع الاقتصادي الداخلي في السودان يكون من المفهوم الحاجة إلى دعم اقتصادي كبير، هذا الدعم في عالم السياسة الدولية لا يكون في أغلب الأحيان مجانياً. من هذه المنافذ، أطلت التدخلات الدولية في السياق الجيوسياسي للسودان لضمان استقرار المنطقة، ثم تدخلات أخرى لأهداف ومصالح اقتصادية وسياسية، تمظهر ذلك في الاتفاق الإطاري الجاري، وتلك الرؤى قيد البلورة التي تجري الآن في القاهرة.
الآن، التدخل الدولي في السودان تجاوز العنوان الأبرز، وهو دعم التحول الديمقراطي في السودان، إلى صراع نفوذ قوى دولية، وفي هذا الإطار أشارت ورقة سياسية تنظر في الموقف الأمريكي من أزمة انتقال الحكم في السودان: إلى أن “اهتمام واشنطن بالسودان، كما هو بدول القرن الأفريقي، يتجاوز أزمته الداخلية إلى محاصرة النفوذين الروسي والصيني الذي يُعد أولوية قصوى ضمن الحسابات الأمريكية”.[1] وهذا ما يفسر التسابق المحموم للمبعوثين الغربيين ووزير الخارجية الروسي، في 8 فبراير/شباط الجاري، للخرطوم، لضبط الإيقاع الإفريقي ضمن الأوركسترا الغربية، هذه التحركات قطعاً تلقي بظلالها على العملية السياسية برمُتها، وتعطي الفاعلين في هذا المجال قوة دفع سياسي وكروتاً إضافية لاستخدامها داخلياً، ليس آخرها بالطبع ملف التطبيع مع الكيان الإسرائيلي.
بكل هذه الحيثيثات والوقائع، يبقى السؤال قائماً: هل تفضي هذه التسوية بشكل ما إلى عملية هُبوط ناعم بعد التحليق لأربعة أعوام في أجواء ضبابية لا تخلو من المطبات؟
الخلاصة
تحول مصطلح “الهبوط الناعم”، الذي يعني الوصول إلى تسوية سياسية عبر الحل السلمي، إلى أحد أهم مرتكزات العمل السياسي السوداني[2]، وبالرجوع إلى الاتفاق الأخير الذي يؤسس لنهاية المرحلة الانتقالية يشير بعض المراقبين إلى “أن هذا الاتفاق في الأساس بين تحالفَين ضعيفَين: الأول يتألف من القوى المؤيدة للعسكر بقيادة اللجنة الأمنية، والثاني يتمثّل في معسكر منقسم مؤيد للديمقراطية ويفتقر إلى دعم قاعدته الانتخابية الرئيسة”[3].
كثرة التعثر في محطات الانتقال تشير إلى نفاد اللياقة السياسية والثورية من قبلها، آخذين في الحسبان التجاذبات الدولية في القرن الإفريقي، ووسط إفريقيا، التي رُبما تفرض على الفاعلين الإقليميين والدوليين الدفع باتجاه سيناريو انتخابات مبكرة، بغرض استيفاء مطلوبات الاستقرار السياسي لتوفير أرضية ثابتة يقف عليها الفاعلون في وسط الرمال المتحركة في المنطقة. وعليه، فعملية الانتقال في السودان تجاوزت عناوين التحول الديمقراطي، إلى منطقة استقرار خضراء لإدارة وحماية النفوذ والمصالح الغربية في شرق ووسط إفريقيا، ولو مؤقتاً. أولى استحقاقات الاستقرار هو الانتخابات كما يقول أهل السياسة، فضلاً عن أن الشعب السوداني اصطبر كثيراً، وزيادة الحرف هنا تُفيد زيادة المعنى كما يقول أهل اللغة.
[1] وحدة دراسات القرن الأفريقي، التحول في مُقاربة واشنطن تجاه القرن الأفريقي، مركز الإمارات للسياسات، (20/12/2022)، في الرابط: https://cutt.ly/r05sR2Y
[2] تقرير الأناضول، الهبوط الناعم، (14/9/2018)، في: shorturl.at/bhEI6
[3] خلود خير، هل سيؤدي الاتفاق الإطاري إلى استعادة الحكم المدني؟، مركز مالكوم كير-كارينغي، 12/1/2023،
في: shorturl.at/cimIY