بعد جمود في العلاقات التركية السودانية استمر أكثر من عامين، توجه نائب رئيس المجلس السيادي السوداني، الفريق أول محمد حمدا دقلو “حميدتي”، إلى أنقرة في 27 مايو/أيار 2021، في زيارة رسمية لتلبية دعوة رسمية من الحكومة التركية، وذلك بعد بروز تغيرات داخلية وإقليمية دفعت الطرفين لاتخاذ خطوات من أجل إعادة تفعيل هذه العلاقة.
تأتي هذه الزيارة في ظل تغيرات تشهدها المنطقة، تتمثل في تغير خارطة العلاقات عقب تقارب تركيا مع مصر والسعودية، إضافة إلى التحديات الداخلية التي يفرضها ملف سد النهضة والنزاع الحدودي مع إثيوبيا، فضلاً عن الأوضاع الاقتصادية المتردية في الداخل السوداني.
وعلى الرغم من أنها الزيارة الأولى للسودان منذ عزل البشير، فإنها لم تقتصر على مجرد إعادة تطبيع العلاقات، بل سعت لتحقيق أهداف أكبر، إذ شارك في الوفد كل من وزير الزراعة والغابات الطاهر حربي، ووزير الطاقة والنفط جادين علي عبيد، ووزير الثروة الحيوانية حافظ إبراهيم عبد النبي، ووزير النقل ميرغني موسى حمد، ووزير التنمية العمرانية والطرق والجسور عبد الله يحيى، وعدد من المسؤولين بالدولة.
يبحث تقدير الموقف في السياقات التي أدت إلى هذا التقارب، وما دوافع كلا الطرفين؟ وما التحديات التي تواجهه؟ وما انعكاساته على العلاقة بين البلدين؟
سياقات التقارب
في العامين المنصرمين شهدت المنطقة تغيرات جمة، كان من أبرزها تضارب مصالح الحلفاء، وهو ما أدى إلى تغير خارطة التحالفات، ويمكن أن يُنظر إلى التقارب التركي السوداني ضمن هذه السياقات.
السياقات السودانية للزيارة
– يأتي هذا التقارب في ظل التحديات الاقتصادية التي يواجهها السودان، إذ بحسب تصريح رئيس الحكومة السودانية، عبد الله حمدوك، يعاني السودان من ارتفاع في دينه الخارجي الذي يبلغ نحو 60 مليار دولار، كما أن الأوضاع الاقتصادية ازدادت سوءاً عقب الإطاحة بالبشير، حيث بلغ معدل التضخم نحو 114% في مايو/أيار الماضي، وفق إحصاءات حكومية، بالإضافة إلى تراجع قيمة الجنيه السوداني أمام الدولار.
– تمكن السودان أخيراً من كسر عزلته الدولية نسبياً بعد إلغاء العقوبات الدولية عنه مقابل اشتراكه في حملة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي التي شكلت تغيراً استراتيجياً في توجهاته في سياسته الخارجية. لكنه وبالرغم من تخففه من العقوبات وكسر عزلته الدولية لم يتمكن من تحقيق أي فائدة مرجوة فيما يتعلق بملف سد النهضة، خصوصاً أن معظم الوساطات باءت بالفشل.
السياقات التركية للزيارة
– بالنسبة إلى تركيا مثّل سقوط البشير خسارة كبيرة؛ نتيجة لتوقف تنفيذ الاتفاقيات التي وُقِّعت في 2017 بين الحكومة التركية والرئيس السابق عمر البشير، وأصبحت العودة إلى تنفيذ تلك الاتفاقيات ضرورة، خصوصاً في ظل التحديات الاقتصادية التي تواجهها تركيا بسبب تأثيرات جائحة كورونا من جهة، والضغوط الدولية التي أثرت في عملتها المحلية لتشهد تراجعاً غير مسبوق في قيمتها مقابل الدولار، من جهة أخرى.
– من جانب أمني تدرك أنقرة أن عودة العلاقات مع مصر لا تكفي من أجل حماية مصالحها في ليبيا، بل لا بد من إعادة تفعيل العلاقات مع السودان لسببين؛ الأول يتعلق بأهمية الدور السوداني في تحقيق الاستقرار في ليبيا، والثاني يرتبط بضرورة الاستفادة من فتور العلاقة بين الخرطوم وأبو ظبي بحيث يمكن لتقارب تركيا والسودان أن يؤتي ثماره في أكثر من مجال.
السياقات الإقليمية
– تعيش المنطقة مجموعة من التغيرات الهامة، أدت بمجملها إلى التقارب التركي السوداني، فمن ذلك تنشيط تركيا لجهودها الدبلوماسية، وتقاربها مع كل من السعودية ومصر، إضافة إلى حدوث تقارب مسبق بين قطر وكل من السودان ومصر، كل هذا كان له دور كبير في التمهيد لحدوث تقارب تركي سوداني.
– التدخل التركي في ليبيا ودعم الشرعية وإضعاف حفتر ومن ثم إفشال خطط الإمارات فيها، كان له دور أيضاً في حدوث التقارب الحالي بين تركيا والسودان.
– زيادة التوتر في العلاقات بين إثيوبيا من جهة والسودان ومصر من جهة ثانية، فيما يتعلق بملف سد النهضة، وفشل الوساطات، خلق حاجة ماسة إلى البحث عن بدائل إقليمية تسهم في إيجاد حل.
دلالات التقارب ودوافعه
على الرغم من الفتور الذي صبغ العلاقة بين الطرفين مدة طويلة فقد أصبحا يدركان ضرورة إعادة تفعيل العلاقات؛ نظراً إلى أن مجال وحجم التحديات التي تواجههما قادر على أن يخلق قاعدة مشتركة للتعاون بينهما.
الدوافع السودانية
نظراً لحجم التحديات الاقتصادية والأمنية التي يواجهها السودان أصبح البحث عن بدائل في الحلول والعلاقات ضرورة قد تمكنه من التعامل مع تلك التعقيدات، ولعل أبرز الدوافع التي تحرك السودان في تقاربه مع تركيا تتمثل في التالي:
1- الحاجة إلى التنويع في مجال العلاقات، ففي الجانب السياسي أدرك السودان أن سياسة التعويل على طرف دون آخر لا تحقق المصالح الوطنية، بل لا بد من الانفتاح على مختلف الأطراف بغية الحصول على أكبر قدر من المكاسب الممكنة، وبتقاربه مع تركيا سيحقق السودان فوائد جمة، لا على الجانب الاقتصادي فقط، بل ستنعكس مستقبلاً على الجانب السياسي، خصوصاً إذا آتت الاتفاقيات أكلها، ونُفِّذت المشاريع، فوفقاً لحميدتي تضمنت تلك المشاريع التعاون في مجالات عدة، منها ما يتعلق بمجالات الطاقة والنفط والزراعة والثروة الحيوانية والبنى التحتية والطرق والجسور والنقل والمواصلات، وأكد أن حجم التبادل التجاري (بين البلدين) وصل إلى مليار دولار، إلى جانب تطوير العلاقات الثنائية والتنسيق المشترك على الصعيدين الدولي والإقليمي.
2- حاجة السودان إلى دعم اقتصادي حقيقي، فعلى الرغم من وقف العقوبات الاقتصادية عليه، المطبقة منذ 1993، لا تزال آثار العزلة التي استمرت ثلاثة عقود واضحة، إضافة إلى التأثيرات السلبية التي خلفها انفصال الجنوب، مع التأثيرات الاقتصادية التي خلفها تفشي الجائحة. وعلى الرغم من تخندقه منذ البداية مع محور السعودية والإمارات، اللتين تعهدتا بتوفير 3 مليارات دولار، لم تلتزما بتوفير المبلغ، ولم يتمكن السودان من خلال مؤتمر المانحين الذي عقد في برلين من الحصول إلا على 1.8 مليار فقط، وبتقاربه مع تركيا يوجه رسائل ضمنية لتلك الأطراف، كما أنه يؤسس لشراكة حقيقية ستعود عليه بالنفع في الجانب الاقتصادي.
3- حاجته إلى الوساطة التركية فيما يتعلق بملف سد النهضة، خصوصاً أنه استنفد طاقته في الوساطات التي لم تؤت ثمارها. ويعول السودان على قدرة تركيا في تحقيق سبق في حال توسطها في ملف سد النهضة لسببين؛ الأول يرتبط بالعلاقات الجيدة التي تجمع بين تركيا وإثيوبيا، خصوصاً أن تركيا أبدت استعدادها للتوسط في ملف سد النهضة، كما أن إثيوبيا ذكرت، في وقت سابق في 2019، على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية، دينا مفتي، أنها “ستشعر بالامتنان في حال توسطت تركيا بينها وبين السودان من أجل حل النزاع الحدودي القائم”. من جهة أخرى يعول السودان كثيراً على الخبرة التركية في مجال الدبلوماسية والوساطات فيما يتعلق بالنزاعات الإقليمية والدولية.
الدوافع التركية
يأتي التقارب التركي مع السودان ضمن سياسة التقارب التي انتهجتها تركيا مؤخراً لتحقق جملة من الأهداف، أبرزها:
1- تعزيز أهدافها الاقتصادية وحمايتها، إذ يدرك الأتراك أهمية تقاربهم مع السودان في سبيل تعزيز استراتيجيتهم الاقتصادية، فمن خلال هذا التقارب يمكن لتركيا تنفيذ الاتفاقيات الاقتصادية السابقة، إذ وقع الطرفان 22 اتفاقية ومذكرة تفاهم في ديسمبر/ كانون الأول 2017، شملت هذه الاتفاقيات التعاون في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة وصناعة الحديد والصلب والتنقيب واستكشاف الطاقة، وأخرى مرتبطة بتطوير استخراج الذهب، ونصت مذكرات تفاهم على التعاون في إنشاء صوامع للغلال والخدمات الصحية ومجالات التوليد الحراري والكهربائي والتعليم.
2- تعزيز استراتيجيتها الأمنية وحمايتها، إذ يعد الجانب الأمني هو الأكثر أهمية للجانب التركي، فمن خلال هذا التقارب يمكن لتركيا أن تضعف المحور الذي يدعم حفتر بما يعزز استقرار ليبيا ويصب في المصالح الاستراتيجية لتركيا في شرق المتوسط.
3- العودة لتفعيل أدواتها الدبلوماسية، فعلى الرغم من تبنيها سياسة استخدام القوة في تحركاتها الأخيرة في سوريا وليبيا والعراق، آثرت تركيا أن تعود لدبلوماسيتها الناعمة بعد أن حققت هدف الردع في تحركاتها الأخيرة. وبشكل عام لم يتغيب الأتراك عن المشهد السوداني رغم التغيرات التي فرضت عقب سقوط حكم البشير، إذ حضر وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، مراسم التوقيع النهائي على وثيقة الإعلان الدستوري بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير في أغسطس/آب 2019. كما أن وزير الدفاع التركي خلوصي أكار التقى، في فبراير/شباط 2021، نظيره السوداني ياسين إبراهيم ياسين للتباحث في العلاقات الثنائية وقضايا إقليمية.
انعكاسات التقارب
على الرغم من عدم إعلان تفاصيل اللقاء الذي جمع بين الطرفين، تم الإفصاح عن بعض الجوانب الاقتصادية، غير أن نتائج مثل هذا التقارب ستنعكس آجلاً أو عاجلاً على الجوانب الأخرى، وترتبط هذه الانعكاسات بردود الفعل المنتظرة من قبل الطرفين، إضافة إلى الأطراف ذات الصلة.
الملفات السودانية
بالنسبة إلى الجانب السوداني فإن التقارب مع تركيا من شأنه أن يخفف من الأزمة الاقتصادية الراهنة التي يعانيها السودان، وقد يؤدي إلى تضاعف هذه المعاناة، خصوصاً إذ أُخذ في الحسبان موقف بعض الأطراف الدولية المعارضة للنفوذ التركي، التي قد تؤثر فيما يتعلق بالوعود بشطب ديون السودان، كما أن تقاربها مع تركيا سيؤثر في علاقتها بكل من الإمارات والسعودية التي تعد من أكثر الدول استثماراً في السودان.
التقارب الاقتصادي قد ينعكس أيضاً على الجانبين السياسي والأمني، ففي الجانب السياسييأتي تقارب الخرطوم مع أنقرة ليحقق هدفين؛ الأول الضغط على الحلفاء السابقين، السعودية والإمارات، للالتزام بالمساعدات التي تعهدوا بها بعد إسقاط البشير، والثاني يتعلق برغبتها في تنويع شراكاتها السياسية والاقتصادية بما يعود عليها بالفائدة بدلاً من التخندق مع طرف لا يخدم مصالحها العليا. كما أن هذا التقارب من شأنه أن يعزز موقفها في ملف سد النهضة؛ لكون تركيا تعد فاعلاً إقليمياً وتتمتع بعلاقات جيدة مع كثير من الدول الإفريقية، ومنها إثيوبيا. إضافة إلى ذلك فإن تقارب السودان مع تركيا قد يخفف من وطأة الضغط المحلي والانتقادات الداخلية للحكومة الانتقالية بسبب تبعيتها للنفوذ الإماراتي، خصوصاً فيما يتعلق بمسألة التطبيع.
الملفات التركية
بالنسبة إلى الجانب التركي قد ينعكس هذا التقارب على مختلف المجالات، خصوصاً الجانب الاقتصادي، وذلك بعد إعلان العودة لتنفيذ الاتفاقات المسبقة، إذ وفقاً لتصريحات نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، محمد حمدان دقلو، تم الاتفاق على تنفيذ الاتفاقيات السابقة كافة، وأوضح أن قيمة اتفاقيات بلاده مع تركيا تبلغ نحو 10 مليارات دولار، وهذا يعني استفادة الطرفين؛ نظراً لتنوع المجالات التي سيتم الاستثمار فيها.
وفي الجانب الأمني، تقارب تركيا مع السودان له فوائد جمة من ناحيتين، الأولى تتعلق بإمكانية مضيها في اتفاقياتها الأمنية السابقة مع السودان، ومن ثم إمكانية حضورها فاعلاً مؤثراً في القرن الإفريقي، والثاني ضمان مصالحها الاستراتيجية في شرق المتوسط من خلال تدعيم استقرار ليبيا. أما في الجانب السياسي فمن شأن هذا التقارب أن يخفف من حدة الانتقادات الموجهة لتركيا، خصوصاً أن دورها في الوساطات سابقاً هو ما مهد لها لتصبح فاعلاً إقليمياً مؤثراً حتى خارج نطاقها الإقليمي.
الملفات الإقليمية
بعد أن تمكنت من التقارب مع السعودية ومصر حققت تركيا تقارباً مع السودان، وهذا قد يكون له انعكاس مباشر على تحالفات المنطقة؛ إذ خلال الفترة السابقة طغى صوت الثورات المضادة، بدعم مباشر وغير مباشر من القوى الغربية، ومن خلال دور الإمارات بشكل أساسي في المنطقة، وقد يؤدي هذا التقارب إلى تعزيز قوة محور تركيا قطر مقابل محور الإمارات والكيان الإسرائيلي في المنطقة. كما قد يؤدي هذا التقارب أيضاً إلى استعادة التوزان في المنطقة، خصوصاً أن ملف التطبيع وملف حفتر لم يحققا أهدافهما في المنطقة حتى الآن.
خاتمة
من خلال إعلان الطرفين العودة إلى تنفيذ جميع الاتفاقيات السابقة يكون التقارب قد شرع في تحقيق هدفه الاقتصادي، غير أن الأهداف الأمنية والسياسية ظلت طي الكتمان، إذ لم تُعلَن حتى اللحظة، ومن ثم فإن نتائج هذا التقارب وانعكاساته على الملفين الأمني والسياسي ستبقى مرهونة بالتغيرات التي تشهدها المنطقة من جهة، وبردود الفعل المنتظرة من قبل الطرفين، من جهة أخرى. قد يؤدي هذا التقارب بمجمله إلى إمكانية تغليب مصلحة الداخل الإقليمي- وهو المشروع الذي يحمله المحور التركي/ القطري- على المصالح الخارجية المتمثلة بالمصالح الغربية في المنطقة، لكن تحقق مثل هذا الهدف يواجه تحدياً مصيرياً يرتبط بوجود المصالح الغربية في المنطقة، ومن ثم فإن حجم التفاهمات والتحالفات والعلاقات مرهون بتأثير الأطراف الخارجية في هذه العلاقات بشكل كبير.