بعيداً عن تجاذبات الملف النووي الإيراني والمساعي الأوروبية والرغبة الأمريكية في إيجاد حل دبلوماسي للملف، تصاعد التوتر في مياه الخليج بين طهران وتل أبيب بعد تعرض سفينة تجارية تابعة لشركة (Helios Ray Ltd) الإسرائيلية، في يوم 26 من شهر فبراير/شباط الماضي، لتفجيرين مجهولين في مياه خليج عمان، واتهام رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إيران بالوقوف وراءهما، وتهديده بالرد.
إيران من جانبها رفضت الاتهام الموجه ضدها، واتهم المتحدث باسم الخارجية الإيرانية سعيد زاده، في مؤتمر صحفي عقب الحادث، الكيان الإسرائيلي بالسعي إلى زعزعة الأمن في منطقة الخليج، مشيراً إلى “أهمية أمن مياه الخليج بالنسبة لإيران، وقدرة طهران على الرد بشكل دقيق ومباشر ضد أي تهديد في تلك المنطقة”.
هذا الهجوم، الذي يعد الأول من نوعه باستهداف سفينة إسرائيلية في مياه الخليج، يأتي استمراراً للتصعيد المتزايد بين إيران والكيان الإسرائيلي، ولا سيما أن الحادثة أعقبتها غارات إسرائيلية استهدفت مصالح إيرانية في سوريا رداً على التفجير، وهو ما يظهر استمرار التصعيد العابر للجغرافيا بين طهران وتل أبيب، بعيداً عن كل التفاهمات الجارية لمعالجة الملف النووي سلمياً.
فهل هناك من رد للكيان الإسرائيلي على الهجوم؟ وما حجم هذا الرد؟ وهل ستتأثر دول الخليج في حال اتخاذ أي قرار ضد إيران؟ وما حدود هذا التأثر؟
سردية التوتر الإيراني-الإسرائيلي في المنطقة
منذ انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية برئاسة ترامب من الاتفاق النووي عام 2018، توسع التوتر في مياه الخليج، وتضاعفت التحركات العسكرية في المنطقة؛ فبالإضافة إلى الوجود الأمريكي المتزايد في مياه الخليج، بدأ الكيان الإسرائيلي بتحريك غواصة تابعة له باتجاه مياه الخليج، ووضع إمكانياته العسكرية في حالة التأهب، وذلك عقب مقتل العالم النووي محسن فخري زاده، في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، واتهام إيران للكيان الإسرائيلي بتنفيذ عملية الاغتيال.
التحركات الإسرائيلية امتدت من الوجود العسكري في البحر إلى الاستهداف المباشر لقطع بحرية تابعة لإيران أو تخدم المصالح الإيرانية في بحر شرق المتوسط، وهذا ما كشفته صحيفة وول ستريت الأمريكية في 11 مارس/آذار 2021؛ بأن “إسرائيل استهدفت ما لا يقل عن 12 ناقلة نفط إيرانية، أو سفناً تحمل نفطاً إيرانياً متجهة إلى سوريا، منذ أواخر عام 2019”.
وتوسع العمل العسكري للكيان الإسرائيلي ليشمل ضرب مواقع إيرانية في سوريا خلال الفترة الماضية، فقد أكد التقرير السنوي لجيش الكيان الإسرائيلي لعام 2020 استهداف أكثر من ٥٠ هدفاً في سوريا، دون تقديم تفاصيل، ولكن تقارير من الداخل السوري أشارت إلى سقوط ضحايا من العناصر الموالية لإيران، وتدمير عدد من مخازن الأسلحة التي تديرها إيران، بالإضافة إلى خسائر في صفوف قوات النظام السوري في عدة ضربات كان أعنفها في 13 يناير/كانون الثاني ٢٠٢١، باستهداف الغارات الإسرائيلية لمخازن أسلحة ومواقع عسكرية، وراح ضحيتها حوالي ٥٧ قتيلاً على الأقل.
وبالإضافة إلى عملياته العسكرية يظهر الكيان الإسرائيلي استعداده باستمرار للقيام بكل ما يلزم لمنع امتلاك إيران للسلاح النووي، حيث صرح رئيس الأركان الإسرائيلي، أفيف كوخافي، في كلمة له في مركز أبحاث الأمن القومي، في شهر يناير الماضي، بجاهزية الجيش الإسرائيلي لمواجهة أي تهديد إيراني نووي، فضلاً عن “وضع خطط لسيناريوهات شنّ عمليات محتملة على إيران في حال اقتراب حصولها على القنبلة النووية”.
كذلك أكد وزير الجيش الإسرائيلي، بيني غانتس، في مقابلة له مع شبكة فوكس نيوز، في 5 مارس/آذار الجاري، أن “الجيش الإسرائيلي يحدِّث خططه لضرب المواقع النووية الإيرانية، وهو مستعد للعمل بشكل مستقل”. واتهم وزير الدفاع الإسرائيلي حزب الله في لبنان بامتلاك مئات آلاف الصواريخ، التي قد تُوجَّه إلى أهداف مدنية في الكيان الإسرائيلي، وأظهر استعداد بلاده لضرب أهداف لحزب الله على طول الحدود الإسرائيلية.
وفي سياق التهديد الإسرائيلي بوضع الخطط لمواجهة إيران، بدأ الكيان بالإعلان عن نية إنشاء تحالف أمني على غرار حلف الناتو، للتعامل مع التهديد الإيراني المتزايد في المنطقة، إذ صرح وزير الجيش الإسرائيلي، بيني غانتس، في 2 مارس/آذار 2021، في الإذاعة الرسمية الإسرائيلية، بسعي بلاده إلى إقامة ترتيب أمني مع عدد من دول الخليج لمواجهة مساعي إيران في المنطقة، دون تسمية هذه الدول.
وكشفت الإذاعة الإسرائيلية الرسمية عن اجتماع سري جمع عاهل الأردن الملك عبد الله الثاني، بوزير الدفاع الإسرائيلي غانتس، لمناقشة فكرة التعاون الأمني لمواجهة إيران، بالإضافة إلى إعلانها عن محادثات لمسؤولين رفيعي المستوى لعدد من الدول العربية مع نظرائهم من الكيان الإسرائيلي للتشاور في المسألة ذاتها، وفي مقدمتها المحادثة الهاتفية بين نتنياهو وولي عهد البحرين سلمان بن حمد آل خليفة، والمحادثة الهاتفية التي جمعت وزير الخارجية الإسرائيلي غابي أشكنازي بنظيريه الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان والعماني يوسف بن علوي.
في مقابل هذه التحركات حذرت إيران من زعزعة أمن المنطقة واستقرارها، وأكدت أنها لن تسمح بذلك، وقال وزير الدفاع الإيراني الأسبق عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام الإيراني، أحمد وحيدي، في تصريحات له على قناة “RT”، في الـ٣ من الشهر الجاري: “إنه في حال دخلت السعودية والإمارات والبحرين في تحالف ضد إيران، فإنها ستتلقى ضربات قوية جداً”.
أسباب التصعيد
أصبح أمن المنطقة العربية وحدودها أكثر عرضة للاختراق المباشر أو لهجمات الأذرع الموالية لأعداء دول المنطقة نتيجة توسع حالة الفوضى في عدد من دول المنطقة، وغياب خطة عمل مشتركة لدول المنطقة في سبيل التعامل مع التهديدات الأمنية بشكل حازم، فضلاً عن جمود دور الكيانات العربية في حماية دول المنطقة من زيادة التدخل الخارجي في شؤونها.
فبينما تمكنت إيران من اختراق المنطقة العربية من خلال تبنيها سياسة معادية للكيان الإسرائيلي، والظهور بمظهر الحامي لرُبا الإسلام، والمدافع عن مقدساته، توسعت تحركات الكيان الإسرائيلي نحو زيادة علاقات التطبيع مع عدد من الدول العربية، ساعياً إلى الاعتراف الشامل من كل دول المنطقة، بل وامتد إلى اختراق وحدة الكيان العربي عن طريق إنشاء تحالفات ومنظومات تنسيق بعيدة عن تلك التي كانت تقوم على محورية القضية الفلسطينية.
وفي ظل الوضع الميداني المشتعل في عدد من دول المنطقة تتصاعد التصريحات المتبادلة بين تل أبيب وطهران بشأن عمل عسكري بينهما، ويدفع الطرفان باتجاه تحشيد المنطقة نحو صراع جديد؛ إذ يسعى كل طرف إلى إظهار قدرته على تحشيد دول المنطقة العربية ومكوناتها ضد الطرف الآخر، بحيث يظهر الكيان الإسرائيلي كقوة إقليمية قادرة على تجميع دولة المنطقة في جبهة واحدة ضد إيران، في حين تظهر إيران كقوة قادرة على استنزاف الكيان الإسرائيلي عن طريق العناصر الموالية لها، والموجودة في أرجاء المنطقة العربية.
وعلى الرغم من ارتفاع درجة التصعيد بين طهران وتل أبيب خلال الفترة الماضية، فإن كلاً منهما حافظ، ولا يزال، على حدود واضحة للتصعيد ودون انزلاق الوضع بينهما نحو المواجهة المباشرة، لذلك يمكن القول إن الهدف الرئيس من التصعيد الحالي بين الطرفين هو حرص كل منهما على الحفاظ على اليد العليا في مباشرة نفوذه داخل المنطقة العربية وحماية مصالحه القومية.
بالإضافة إلى السبب الرئيسي يمكن الإشارة إلى عدد من الأسباب الأخرى:
1- تنسيق الجهود بين واشنطن وتل أبيب بشأن مواجهة التحركات الإيرانية؛ من خلال تفويض تل أبيب للقيام بدور عسكري في المنطقة يفرض مزيداً من الضغط على إيران، وهو ما قد يخدم إدارة بايدن بشأن إدارة الملف النووي، وهذا ما يؤكده إعلان الخارجية الإسرائيلية، في 2 مارس/ آذار 2021، بتوصلها إلى تفاهمات مع واشنطن تتضمن “ألا يفاجأ أي طرف من الدولتين بكل ما يتعلق بالعودة إلى مفاوضات الاتفاق النووي”.
2-الوضع الداخلي غير المستقر للكيان الإسرائيلي، إذ إنه مقبل على انتخابات رابعة خلال عامين فقط في نهاية شهر مارس/آذار، وهو ما يتيح للخصوم السياسيين استخدام ورقة التهديد الإيراني لتعزيز فرص حسم الانتخابات لمصلحتهم، وهذا ملاحظ من خلال تصريحات القيادات الإسرائيلية المتنافسة في الانتخابات بشأن التهديد الإيراني وخطط مواجهته.
3- إيران كذلك مقبلة على انتخابات رئاسية في منتصف يونيو/حزيران من العام الجاري، ويحاول المتنافسون استثمار المؤثرات الخارجية على الداخل الإيراني؛ فبينما يتوجه المحافظون إلى استغلال عدم تمكن الإدارة الحالية من تحقيق إنجاز فعلي لإيران بشأن الملف النووي، ورفع العقوبات، والرد على التهديدات الإسرائيلية لتعزيز موقفهم في الانتخابات، يحاول الإصلاحيون تعزيز موقفهم بالتمكن من الحصول على تفاهمات مع واشنطن قبيل الانتخابات تؤدي إلى رفع العقوبات وإنهاء الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عنه، فضلاً عن المناوشات مع الكيان الإسرائيلي لإظهار قدرة الحكومة على الدفاع عن مصالح إيران وأمنها.
تداعيات التحركات الإسرائيلية على أمن دول الخليج
تشهد منطقة الشرق الأوسط تحولاً جذرياً في علاقتها السياسية مع الكيان الإسرائيلي الذي ابتدأ باتفاقية كامب ديفيد بين مصر والكيان الإسرائيلي في 1978، وتبعته معاهدة السلام بين الأردن والكيان الإسرائيلي في 1994، إلى أن توسع ليشمل علاقات تطبيع مع عدد من الدول الخليجية والعربية بنهاية عام 2020.
هذا التمكن السياسي للكيان الإسرائيلي في توسيع الاعتراف به بين دول المنطقة العربية، ولا سيما الخليجية منها، تحت ذرائع عديدة، وفي مقدمتها مواجهة التهديد الإيراني على دول المنطقة، قد ينعكس سلباً على وحدة البيت العربي والخليجي، نتيجة وجود اتجاهين متعارضين لفكرة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وهو ما قد يؤدي إلى القضاء على الرؤية العربية والخليجية الموحدة تجاه القضايا المصيرية والدفاع عن المصير المشترك لدول المنطقة العربية.
هذا ويمكن أن يستغل كلا الطرفين توسّع التطبيع بجوانبه السياسية والعسكرية وغيرها، لتحويل ساحة المواجهة بينهما إلى المياه والحدود الخليجية، وهو ما يعرض أمن الخليج لانكشاف أمني واختراق عسكري مع أي تصعيد بين الطرفين. إيران من جانبها قد تسعى أيضاً في مواجهة أي تحرك إسرائيلي- بالتحالف مع دول خليجية- إلى التهديد بغلق مضيق هرمز أمام تدفق النفط، وهو ما قد يؤدي إلى التسبب بضرر كبير على اقتصاد تلك الدول، بل وقد يمتد الضرر إلى الاقتصاد العالمي وحركة النفط الدولية.
وفي حال إنشاء مشروع التنسيق الأمني بقيادة الكيان الإسرائيلي فإن حالة اللاستقرار في منطقة الخليج العربي قد تزداد سوءاً، وذلك لكون الحلف ينحصر في عدد من دول المنطقة في مواجهة دولة أخرى إقليمية، وهو ما قد يؤدي إلى زيادة الاضطراب الأمني في المنطقة؛ نتيجة زيادة التحالفات العسكرية المتعارضة فيما بينها، وتضاعف الترقب العسكري لدول المنطقة إلى مستويات عالية بما يؤثر سلباً في خطط وميزانيات دول المنطقة التنموية والإنشائية.
أيضاً يمكن القول إن تماهي الأدوار بين الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي في إدارة الملف النووي بين طرف يمارس الدبلوماسية ولغة التفاوض، وآخر يهدد بخيار القوة والضربات العسكرية، يسهم في فرض نوع من الابتزاز الدبلوماسي لدول الخليج، والذي يفرض عليها في سبيل الدفاع عن أمنها واستقرار حدودها زيادة المشتريات الحربية من الولايات المتحدة الأمريكية، وربما أيضاً التفاعل مع المشروع الإسرائيلي وتقديم الدعم اللوجيستي والعسكري لمواجهة أي تصعيد عسكري إيراني في المنطقة.
الخاتمة
على الرغم من استبعاد حصول حرب شاملة بين الكيان الإسرائيلي وإيران، يمتد أثرها إلى كل دول المنطقة، ولا سيما الخليجية منها، من المتوقع أن يستمر الطرفان بتبادل التصريحات المهددة، وتصعيد الاستعداد العسكري بينهما، وفي حال حصول مناوشات أو ضربات بينهما فإنها ستكون محدودة لتوجيه رسائل تحذير وعرض قدرات، ودون انجرار نحو الصدام المباشر.
إن استمرار التصعيد بين طهران وتل أبيب يهدف إلى الإبقاء على الاستغلال الإعلامي والسياسي لوهج الخلاف بينهما، وذلك بغرض تحقيق مكاسب داخلية وخارجية لكلا الطرفين، وفي كل الأحوال يظل الخطر قائماً على أمن الدول الخليجية والعربية؛ من تعرضه لاختراق خارجي يضعف قدرة الدولة السيادية، ولذلك على دول المنطقة أن تتجه إلى إعادة تفعيل منظومة العمل العربي المشترك، وإعادة التنسيق الموحد بينهم، بما يكفل استقرار دول المنطقة ورعاية مصالحها القومية، بدلاً من التعويل على تحالفات خارجية مؤقتة تراعي تحقيق مصالحها فقط.
على دول الخليج كذلك أن تضغط على المفاوضين الأوروبيين في ملف إيران النووي لإدراج دول المنطقة-السعودية على وجه التحديد- في اتفاق جديد يضمن مصالح الخليج القومية والأمنية، وإذا لم تتمكن الدول الخليجية من المشاركة في اتفاق نووي جديد، فإن عليها أن تتجه إلى تفعيل المباحثات المباشرة مع إيران، ويمكن أن يكون للدول الإقليمية المحيطة دور في رعاية تلك المباحثات بينهما، بما يضمن استقرار وسيادة وأمن دول المنطقة جميعاً.