مقدمة
أُعيد الحديث عن الإسلام إلى الواجهة مجدداً في الساحة الأوروبية بعد تصريحات ماكرون الأخيرة حول الإسلام، ثم تأييده للرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول ﷺ بوصفها حرية تعبير. ولم تقف المسألة عند هذه اللافتة، بل تجاوزتها إلى مسألة متداخلة تتراوح بين التوظيف التكتيكي المرتبط بالمعارك الداخلية التي تخوضها الحكومات وفشلها في العديد من الاستحقاقات، وبحثها عن مخارج تغطي بها تلك الإخفاقات من خلال افتعال مشكلات هُوياتية محل اهتمام شرائح واسعة من المجتمع، وبين قضايا أعمق من ذلك بكثير تتصل بعلاقة أوروبا عموماً بالإسلام، وتحيل في هذا السياق إلى تلك المحاولات الهادفة إلى قولبة الإسلام في نماذج تتماهى مع القيم الثقافية في المجتمعات الأوروبية بغض النظر عن الفوارق الجوهرية بينها وبين القيم الإسلامية وخصوصياتها.
لم يعكس خطاب ماكرون في مقارباته حول محاربة “الجماعات الإرهابية” و”الإسلام السياسي” أو “الانعزالية الإسلامية” توجس السلطات الحاكمة ومخاوفها من “التهديدات الإسلامية” فقط، وإنما برهن على عجز الحكومة الفرنسية عن إيجاد حلول ملموسة للقضايا التي تمس الجالية المسلمة، وعلى عدم تمكن سياسته من التعامل بحكمة مع المشاكل الداخلية، فصدرها إلى الخارج، من خلال حديثه عن المشكلات التي يواجهها الإسلام في العالم، وبذلك أعاد من جديد أطروحة صراع الحضارات، والخطاب المولد للعنف والعنف المضاد، وأثبت من ناحية أخرى أن “المعركة اللامتناهية” بين الفكر الغربي والحضارة الإسلامية آخذة في الاستمرار والتوسع.
وإذ ليست هناك أي جهود أممية ودولية للتوصل إلى ميثاق يجرم الاعتداء على الأديان (ولا سيما الدين الإسلامي)، ولكون الردود الرسمية للعالم الإسلامي غالباً ما تأتي خجولة غير مستدامة، وتُصرح فقط لامتصاص غضب شعوبها ولتضمن حقها في استمرار الحكم، فإن المعركة ستتجدد بين حين وآخر. ويدخل العامل غير الرسمي، ممثلاً في الشعوب، بصفته متغيراً مستقلاً قد يحدث الفارق؛ لأنه يعرف من أين تؤكل الكتف الأوروبية؛ من خلال خيار “المقاطعة” بوصفها وسيلة دفاع تعاقب بها من يسيء إلى مقدساتها، وقد أثبتت نجاعتها، الظرفية على الأقل، ورغم تراجعها فإنها تعود مرة أخرى كلما أعادت جهة ما الإساءة للمسلمين، كما حصل مع الدنمارك سنة 2005، وفرنسا في الآونة الأخيرة.
تبحث هذه الورقة السياسية في إحداثيات الخطاب الفرنسي الحكومي تجاه المسلمين الفرنسيين، وحول الدين الإسلامي بشكل أوسع، وتناقش مسألة صياغة “الإسلام المحلي” التي انتهجتها العديد من الدول، ومن ضمنها الأنظمة العربية والإسلامية، كما ترصد حركة المقاطعة الشعبية ومدى فعاليتها مقارنة بين التجربتين الفرنسية والدنماركية.