خلق مفهوم النسوية جدليته الخاصة على المستوى العالمي عموماً والمستوى الخليجي خصوصاً، إذ تشكل هذا المفهوم وفقاً لظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية عاصرتها المجتمعات الغربية دون المجتمعات الأخرى، وهو ما كان له انعكاساته على تشكيل أسس وخصائص هذا المفهوم من ناحية، وعلى الانطباعات التي يخلقها من ناحية أخرى، كما أن انتشاره من خلال العولمة -بشموليتها الاقتصادية التي تعمم التجربة الغربية وتفرضها بشكل أحادي- أكسبه سمات سلبية جعلته يبدو أقرب إلى التهديد منه إلى جلب المنفعة للمجتمعات، ومن هنا كان لهذا المفهوم انعكاساته السلبية لدى الوعي الجمعي في مختلف المجتمعات الخليجية.
برز هذا المفهوم خلال حقبة اتسمت بكثرة التغيرات التي شهدتها المجتمعات الخليجية، ابتداءً من ظهور النفط بتأثيراته المتباينة في الجانب الاقتصادي والاجتماعي، ومروراً بتشكل الأنظمة وتبني المجتمعات الخليجية لأنماط حياة تختلف عن نمطها السابق بسبب تأثيرات النفط، وبسبب تأثيرات العولمة، بالإضافة إلى تأثرها بحالة الصدام التي أفرزتها مقاومة المجتمعات للاستعمار بكل مفرداته، ومن ضمنها مفهوم النسوية.
قبل أن نناقش مدى أصالة الخطاب النسوي وتبعيته للمنظور الغربي لحقوق المرأة، ينبغي أن ننطلق من سؤال: هل واقع المرأة الخليجية مثالي أم أنه يحتوي على كثير من الاختلالات التي تجعل من مسألة التأثر بالأطروحات- المتباينة أياً كان مصدرها- حاجة قد تفضي إلى حل هذه الاختلالات؟
في الحقيقة تعاني المرأة في مختلف دول الخليج من مجموعة من التحديات المترابطة والمتشابكة، والتي تحتاج إلى تعقب وتفنيد من أجل تفكيكها ومن ثم السعي لإيجاد حلول لها.
جزء من هذا التعقيد لا يرتبط بواقع المرأة الخليجية وحسب، بل هو جزء من السردية المجتمعية ومقارباتها لمفهوم حقوق المرأة ودورها في المجتمع؛ فعلى مدار قرون تشكلت نظرة نمطية حول دور المرأة، فكان مقتصراً على مجالات محددة عادة ما تختزل في الإنجاب والتربية، والمجالات التي تدور في فلكهما. لكن بمرور الوقت ظهرت احتياجات متنوعة تستدعي تفعيل دور المرأة في مجالات مختلفة ليس بالضرورة أن تنحصر في قطاعي التعليم والطبابة، لكن النظرة المجتمعية المنمطة لدور المرأة عادت أي جهود تتنافى مع مسلّماتها، وهو ما شكل حالة من الصدام المستمر بين جهود الراغبين في إصلاح واقع المرأة، بوصفه جزءاً من إصلاح المجتمع، وبين المتعصبين للموروث الثقافي، خصوصاً أن كثيراً من جهود الإصلاح السابقة نهلت من منابع الفكر الغربي دون تمحيص، فتبنت بعض الاستراتيجيات دون النظر في جوهرها، وهو ما جعل من مسألة معاداتها قضية جوهرية من قبل المجتمع بسبب تماهي دورها مع تلك المسلمات الغربية.
المشترك والمختلف بين الحركات النسوية في الخليج
تستند الحركات النسوية في الخليج إلى جملة من العوامل المرتبطة باللغة والدين والموروث الثقافي والجغرافية وطبيعة الأنظمة السياسية. هذه العوامل المشتركة أسهمت في تحديد ملامح هذه الحركات النسوية، التي عادة ما تنشط في مجالات محددة ذات بعد اجتماعي لا يتصادم مع مسلَّمات المجتمع، كما أنها في أحيان كثيرة تبرز في قطاع العمل الخيري، وهو من أكبر المساحات التي تستوعب طاقة هذه الحركات النسوية. وعلى الرغم من الاقتصار على هذه القطاعات لدى بعض الحركات النسوية الخليجية، تمكن بعضها من تجاوز هذه المساحات المخصصة، ونجحت – إلى حد ما- في توسيع هذه القطاعات لتشمل القطاع السياسي والاقتصادي أيضاً، على غرار مطالبات الحراك النسوي في الكويت بحقوقه السياسية.
بالإضافة إلى ذلك تتشارك هذه الحركات في مواجهة التحيز القانوني المنطلق من مسلمات مجتمعية، عادة ما تحجم دور المرأة على اعتبار حاجتها إلى ولي، وتلغي حقوقها من منطلقات دينية مختلطة بالموروث الثقافي، فعلى سبيل المثال لا تستطيع المرأة الخليجية إعطاء أبنائها الجنسية في حال كانت متزوجة بأجنبي، والسبب في ذلك لا يستند إلى قرار فقهي بل إلى نظرة مجتمعية تختلط بأغراض سياسية اقتصادية دون أن يكون لها جذور حقيقية مرتبطة بالتشريع الإسلامي، فقديماً لم تظهر الإشكاليات المتعلقة بالحدود وصعوبة الحصول على عمل، بالإضافة إلى الشروط التي تختلف من دولة لأخرى ويعاني منها أبناء الخليجيات.
ورغم التشابه في كثير من الجوانب التي شكلت طبيعة خطاب الحركات النسوية في الخليج، ينبغي الإشارة إلى أن مطالبها تباينت وفقاً لاختلافات احتياجاتها وظروفها من دولة خليجية إلى أخرى، فعلى سبيل المثال كان الهم السياسي هو المحرك الأبرز لمطالب المرأة في الكويت، في حين أن الحق في إعطاء الجنسية شكل معظم مطالب المرأة العمانية التي نالت الكثير من حقوقها السياسية بقرارات من السلطان قابوس دون نضال، أما في السعودية فتعددت المطالب وأخذت موجات مختلفة وفقاً للظروف السياسية والاقتصادية التي مرت بها المملكة.
وهكذا فرغم تشابه العوامل التي شكلت ملامح هذه الحركات فإن احتياجات الواقع أفرزت أنماطاً مختلفة هي التي حددت طبيعة النشاط النسوي في كل دولة خليجية على حدة.
تحديات واقع الحركات النسوية
رغم تمكن كثير من الحركات النسوية من تحقيق بعض مطالبها لا يزال الجزء الأكبر من مطالبها غير محقق حتى اللحظة، والسبب في ذلك تتداخل فيه الأسباب المتعلقة بطبيعة الأنظمة القائمة في هذه الدول وقوانينها من جهة، والموروث الثقافي والمسلمات الشعبية التي تحدد أطر التفكير ومساحات الممارسة للمجتمعات الخليجية من جهة ثانية. إذ تحتوي قوانين بعض دول الخليج – كعمان على سبيل المثال- على بنود تحظر التجمع والقيام بأنشطة مجتمعية بعيداً عن إشراف الدولة، وهذا بدوره يعيق إمكانية تشكل مجتمع مدني يكون له دور فاعل في نقد سياسات الحكومة من جهة، وفي تقييم نشاط الحركات النسوية من جهة أخرى. وبحد نشاط الحركات النسوية في المساحة المقبولة حكومياً تتعثر الحركات النسوية عن تحقيق أي إنجاز؛ لكونها لا تستطيع أن تتحرك إلا في المساحة المخصصة لها دون أن تجد الفرصة لتنظيم نفسها من أجل إيجاد حلول حقيقية لإشكاليات واقعها.
أما في البعد الاجتماعي فلا يزال دور المرأة مرهوناً بمدى تقبل المجتمع له، فعلى الرغم من ارتفاع نسب المتعلمات، وانخراط كثير منهن في أنشطة سياسية واقتصادية، بالإضافة إلى تبني بعض الدول الخليجية مبدأ الكوتا لتمكين نسبة من النساء للمشاركة في قطاعات متنوعة، فإن المرأة الخليجية لا تزال بعيدة كل البعد عن التمثيل العادل لوجودها في مختلف المؤسسات الحكومية، والسبب في ذلك- كما يشير متخصصون- هو عدم تقبل المجتمع لدورها خارج إطار الأسرة والتعليم وقطاع الصحة، وهو ما يتطلب بناء وعي لدى مختلف فئات المجتمع، لا إصدار المزيد من القوانين التي تعمق حالة العداء بين المجتمع وبين دور المرأة.
وغياب الدعم المجتمعي له أسباب عدة أبرزها معاداة الخطاب الحقوقي الذي تتبناه هذه الحركات، بناء على أنها امتداد للاستعمار الغربي، الذي يهدف إلى هدم قيم المجتمعات المسلمة وتهديد وجودها.
خاتمة
لا تزال التحديات التي تواجه واقع المرأة في مختلف المجتمعات العربية- ومنها الخليجية- قائمةً، وتتطلب الكثير من الجهود التنظيرية النقدية والعملية، التي ينبغي ألا تقتصر على مجرد نقد تأثير الخطاب الغربي على نشاط وجهود الحركات النسوية، بل ينبغي أن تلتفت بالأساس إلى الاختلالات القائمة، والتي استدعت بدورها البحث عن حلول لها وإن كانت دخيلة، نظراً لغياب الحلول البديلة النابعة من نفس بيئة الحركات النسوية الخليجية.