حدَثٌ أقل من حرب وأكثر من مواجهة”؛ هكذا وصف جيش الاحتلال الإسرائيلي إسقاط مقاتلة تابعة له من طراز F-16، يوم السبت 10 فبراير/ شباط الجاري، قرب الحدود السورية، بعد تنفيذها عملية في داخل سوريا، وجاء التصعيد الأخير- وفق ما قاله- رداً على اختراق طائرة من دون طيار إيرانية أجواء الاحتلال الإسرائيلي.
من جانبه قال نظام بشار الأسد إن دفاعاته الجوية تصدت للطائرات الحربية الإسرائيلية التي قصفت قاعدة عسكرية في المنطقة الوسطى، وأصابت أكثر من طائرة إسرائيلية. ويبدو أن الخطوط الحمراء الإسرائيلية قد سقطت وتغيرت قواعد الاشتباك، بحسب الإيرانيين وحلفائهم.
وقد ألقت القيادة الإسرائيلية بالمسؤولية على إيران ومستضيفها (نظام بشار الأسد)، وعدت (إسقاط طائرتها العسكرية F16) عدواناً، وقال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو: “سنواصل فعل ما يلزم لحماية سيادتنا وأمننا”. وكان الناطق باسم جيش الاحتلال، أفيخاي أدرعي، قال: “إيران تجر المنطقة نحو مغامرة لا تعلم كيف تنتهي”. وشهدت الجبهة الشمالية استنفاراً واسعاً، ونشراً لمنظومات صاروخية متطورة هجومية ودفاعية.
وعدت إيران إسقاط المقاتلة الإسرائيلية حقاً مشروعاً لنظام بشار الأسد، وقال الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني: “إن ميزان القوى في منطقة الشرق الأوسط تغير بعد تدمير الطائرة الإسرائيلية من قبل الدفاع الجوي السوري”، وهو ذات الموقف الذي أعلنه حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله اللبناني.
المواقف الدولية في جملتها، ومن ضمنها الروسي، دعت الأطراف المتنازعة إلى احتواء التصعيد، باستثناء الموقف الأمريكي، الذي أكد وقوفه إلى جانب كيان الاحتلال الإسرائيلي، في حين أعلنت كل من لبنان (وزارة الخارجية)، وإيران، وحزب الله، تضامنها مع سوريا.
تناقش هذه الورقة دوافع التصعيد في سوريا من قبل الأطراف المتصارعة، ومواقف الفاعلين، والبحث في مآلات الأحداث المستقبلية؟
مواقف الأطراف المتنازعة
– الموقف الإسرائيلي
تعاملت إسرائيل مع حادثة إسقاط طائرتها باتجاهات متعددة؛ الأول تأكيد استمرار امتلاك جيشها للردع العسكري، ومن ثم شنت غارات عقب إسقاط الطائرة، وصفتها بالكبرى منذ عام 1982، حيث قصفت 12 هدفاً عسكرياً داخل سوريا. الأهداف الأربعة الرئيسية منها مواقع إيرانية، يأتي في مقدمتها قاعدة “T–4” الجوية في منطقة تدمر. وبحسب وكالة الأناضول التركية، تعد القاعدة ذات أهمية استراتيجية كبيرة، ويستخدمها الإيرانيون والروس معاً. المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، كونريكوس، ذكر أن بلده “لا تسعى إلى التصعيد، لكنها جاهزة لمختلف السيناريوهات”.
على الرغم من ذلك لم تكن تل أبيب جادة في المواجهة؛ حيث سارعت إلى التواصل مع موسكو لطلب التدخل لوقف التصعيد العسكري، وكان رئيس وزراء كيان الاحتلال الإسرائيلي زار روسيا نهاية شهر يناير/كانون الثاني الماضي، وقال مصدر في الوفد المرافق له لوسائل الإعلام، إن نتنياهو وصف بالتفصيل للرئيس فلاديمير بوتين علامات “الانتشار الزاحف” للنفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط. وتردد أنه اصطحب معه إلى العاصمة الروسية خرائط حُدِّد عليها موقع القواعد العسكرية الإيرانية في سوريا، وهو ما يشير إلى احتمالية اطلاع الروس المسبق.
– النظام السوري وحلفاؤه
بعد سنوات من تهديداته بالرد على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، استطاعت الدفاعات الجوية إسقاط الطائرة الإسرائيلية، وادعى النظام السوري- من خلال وكالة الأنباء الرسمية التابعة له- أن قواته المسلحة أصابت أكثر من طائرة إسرائيلية هاجمت قاعدة في المنطقة الوسطى، وقد تباينت روايته مع الرواية الإسرائيلية فيما يتعلق بالطائرة الإيرانية المسيرة. وقد حرص نظام بشار الأسد وحلفاؤه على تأكيد تغير المعادلة، وخطوط الاشتباك، وقد بدا واضحاً في بيان غرفة عمليات حلفاء سوريا (الإعلام الحربي لحزب الله والميليشيات الإيرانية).
حيث عدَّ حزب الله إسقاط مقاتلة من طراز “إف-16” إعلان “بداية مرحلة استراتيجية جديدة تضع حداً لاستباحة الأجواء والأراضي السورية”، مضيفاً أن “تطورات اليوم تعني بشكل قاطع سقوط المعادلات القديمة”.
الموقف الإيراني كان متأرجحاً بين التنصل مما حدث والإشادة به، “إذا افترضنا حقيقة المواجهة بين إيران وإسرائيل”؛ حيث نفت الخارجية الإيرانية الاتهامات الإسرائيلية الموجّهة لها باختراق أجواء فلسطين المحتلة بطائرة مسيرة، وإسقاط الطائرة الإسرائيلية بنيران إيرانية أطلقت من سوريا، وأكدت أن الوجود العسكري الإيراني استشاري وليس عسكرياً. في المقابل حذرت قيادة ما يسمى بغرفة عمليات سوريا، التابعة (للميليشيات الإيرانية)، إسرائيل من أن أي هجوم لن يُسكَت عليه من الآن فصاعداً، وأنه سيلقى رداً قاسياً.
– الموقف الروسي
لوحظ تأخر البيان الروسي الصادر عن وزارة الخارجية، الذي لم يتعدَّ التعبير عن القلق من التطورات الأخيرة والهجمات على سوريا، ودعوة الطرفين إلى ضبط النفس وتجنّب الأعمال التي يمكن أن تؤدي إلى تعقيد الأوضاع، لكنها شددت على أن أي تهديدات لقواتها الموجودة في سوريا أمر غير مقبول.
من المتوقع أن تتبنى روسيا سياسة متوازنة تحافظ من خلالها على امتيازات علاقاتها مع كل من نظام بشار الأسد وحلفائه الإيرانيين، ومع كيان الاحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى، فليس من مصلحة روسيا تعزيز الوجود الإيراني في سوريا، أو زيادة الاعتداءات الإسرائيلية على حليفها السوري؛ لانعكاسه على صورتها، فهل نسَّق الإسرائيليون مع الروس مسبقاً؟ أم اعتمدوا على الثقة الشديدة بالنفس، والدقة الحادة في التصويب، حتى لا تتعرض الطائرات أو بطاريات الصواريخ الروسية للإصابة؟ أياً كان الأمر فقد أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن قواتها المتمركزة في مطار “T–4” لم تصب بأذى.
دوافع الأطراف المتنازعة
أطراف الصراع (نظام بشار الأسد، وحلفاؤه الإيرانيون، وقيادة الاحتلال الإسرائيلي) جميعها تعاني مشاكل في ساحاتها الداخلية، وضغوطاً خارجية، تدفعها الأولى إلى التصعيد خارجياً في محاولة توحيد الجبهة الداخلية خلف القيادة السياسية التي تدنت شعبيتها نتيجة التحقيقات المتعلقة بتهم الفساد، وتعثرها في تلبية الاحتياجات الاقتصادية، والتهديدات الأمنية. وبينما تعد الدوافع الداخلية تكتيكية، تعد الدوافع الخارجية استراتيجية، ويتصدرها المحافظة على مصالح الأمن القومي لكل منها، وفيما حققت هذه الأطراف المتصارعة بعض الإنجازات فإن الشعب السوري هو أكثر الضحايا.
– كيان الاحتلال الإسرائيلي
اعتاد كيان الاحتلال الإسرائيلي على الاعتماد على سلاح الجو في حسم المواجهات العسكرية مع خصومه في المنطقة، ومنذ العام 2011 زادت الضربات الجوية التي تستهدف المنشآت السورية، وقوات حزب الله، وبعض القواعد التي يكون فيها الإيرانيون. وتكمن أبرز الدوافع الإسرائيلية في التالي:
– إقلاق الوجود العسكري الإيراني وحلفائه في سوريا، ومحاولة منعه من إقامة قواعد عسكرية دائمة، جوية أو بحرية، وخاصة في المناطق الحدودية؛ حيث تخشى أن يقوي موقفهم في الحروب المستقبلية، وأن يعزز من نفوذهم في لبنان وفلسطين.
ويعد كيان الاحتلال الإسرائيلي إقامة أي قاعدة أو أي بقاء دائم في سوريا خطوطاً حمراء، ويعد هذا الدافع الأكثر حضوراً في التحركات الإسرائيلية.
– استغلال الدعم الأمريكي: على الرغم من الدعم الأمريكي المتواصل للكيان الإسرائيلي زاد صعود الرئيس ترامب للحكم، الذي خالف الكثير من التعهدات الأمريكية، من دعمه الفج والواضح للسياسات الإسرائيلية في المنطقة، وهو ما جعلها تتحرك دون خوف أو تردد في المنطقة، وقد نشهد تحركات إسرائيلية في مناطق مختلفة ما لم تقابل بردع.
– استثمار التفهم الروسي: خلال السنوات الماضية غضت روسيا الطرف عن الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا، ولوحظ كثرة زيارات نتنياهو إلى روسيا، كان آخرها نهاية الشهر الماضي، تركزت حول الوجود الإيراني في سوريا، وأعقبها زيارة وفد روسي لفلسطين المحتلة رأسه سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي، نيكولاي باتروشيف، يرافقه كل من نائب وزير الخارجية الروسية، ونائب وزير الأمن الداخلي، ونائب وزير القضاء، بالإضافة إلى عدد من الجنرالات من الجيش والاستخبارات الروسية، ويطمح الاحتلال الإسرائيلي في دور روسيا في منع إيران من إنشاء بنية تحتية عسكرية كبيرة في سوريا، ومن وجودها في جنوب غربي سوريا.
ويبدو أن روسيا هي اللاعب الناظم القادر على التوسط للتوصل إلى تفاهمات تمنع حدوث تصعيد إيراني- إسرائيلي في البلد بأكمله.
النظام السوري وحلفاؤه
بعد سنوات من تكرار الاعتداءات على سوريا، ودخول إيران إلى الساحة السورية لقمع الثورة ومواجهة المعارضة السورية، أصبح قرار نظام بشار الأسد شراكة مع حلفائه، الذين وجدوا أنهم بحاجة لتصحيح صورتهم في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي مقارنة بحالة البطش التي ارتكبوها بحق الشعب السوري، ثم إن الرد على الطائرات الإسرائيلية لن يفرق معها لأنها مستمرة بالقصف، ولذا يعد الهدف الأبرز محاولة تغيير المعادلة وإضعاف قدرات الطائرات في القصف والتحرك براحة، وقيل إن النظام ربما تلقى إذناً وتسهيلات روسية.
الإيرانيون
يسعى الإيرانيون من خلال وجودهم في سوريا عامة، والتصعيد الأخير، إلى تحقيق جملة من الأهداف، أهمها:
- إقامة قواعد متقدمة محادة لفلسطين المحتلة، تمكنها من تعزيز أدواتها العسكرية والسياسية.
- تعزيز النفوذ العسكري والسياسي في المنطقة، على حساب القوى الإقليمية، ومحاولة إقناع القوى الدولية بالاعتراف بها.
- إشغال الجبهة الداخلية عن استحقاقات الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها إيران.
- تحقيق مكاسب في ملفاتها الأخرى، المتعلقة بعلاقاتها مع القوى الدولية الفاعلة، خاصة فيما يتعلق بملفها النووي، وجني ثماره الاقتصادية والسياسية.
حزب الله
- تعزيز الردع العسكري وإثبات تغير المعادلة القديمة والدخول في معادلة جديدة تمنع الاحتلال الإسرائيلي من استمرار اعتداءاته.
- فرض وجوده العسكري في الساحة السورية وحماية نفسه، وتأمين خطوط إمداداته العسكرية إلى سوريا.
- سعي حزب الله إلى استعادة صفته كمقاوم للاحتلال بعد أن تلاشت هذه الصفة في مواجهاته مع السوريين.
السيناريوهات
شهدت سوريا خلال الأيام الماضية إسقاط ثلاث طائرات، لكل من روسيا وتركيا، والكيان الإسرائيلي، وتعد الإسرائيلية أبرزها، وتشكل جميعها صورة تبين تحول سوريا إلى ساحة لتصفية الصراعات بين القوى الإقليمية، ومحاولات فرض النفوذ في المنطقة من قبل هذه القوى؛ وهو ما يعقد الوضع السياسي والعسكري في سوريا، ويضعف القدرة على التنبؤ بشكل دقيق بالمسار المستقبلي الذي سيسلكه التصعيد الدائر حالياً في سوريا، لكن المعطيات تشير إلى اصطفاف محدود حول قضايا محددة وجزئية بين الحلفاء، التي تتصارع فيما بينها من جهة، وتُصارع مجتمعة مع غيرها من جهة أخرى، لفرض مصالحها. هذه المعادلة تفرض ثلاثة سيناريوهات مستقبلية:
– السيناريو الأول: التصعيد والدخول في حرب
يفترض هذا السيناريو احتمالية التصعيد بسبب حاجة كيان الاحتلال الإسرائيلي إلى الاستمرار في قصف الأهداف في سوريا؛ نظراً لحساسية الوجود العسكري الإيراني، وشعور الإسرائيليين بأنهم في سباق مع الزمن، قبل أن تتمكن إيران من تثبيت وجودها في سوريا ببناء منشآت عسكرية نوعية.
تكمن نقاط ضعف هذا السيناريو في تدني الإمكانات الاقتصادية والدعم الشعبي لكل من إيران وحلفائها من جهة، وتهم الفساد التي تلاحق رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، وعدم توحد الجبهة الداخلية خلفه، من جهة ثانية، كما أن إيران تعاني ضغوطاً داخلية وخارجية تطالبها بالخروج من سوريا، كل هذه العوامل تجعل احتمالية التصعيد ضعيفة، وفي أحسن حالاتها مؤجلة.
بضعف طرفي الصراع قوة الردع، خلال الحروب التي خاضوها في السنوات الماضية، وأنهكت نظام بشار الأسد وحلفاءه، كما أن التصعيد العسكري والتحول إلى حرب شاملة ليس قراراً خاصاً بطرفي المواجهة، ويحتاج إلى موافقة الروس والأمريكيين، القوتين الكبيرتين الحاضرتين في المنطقة، لأن أي حرب كبيرة تشنها إسرائيل ستلحق ضرراً هائلاً بإنجازات نظام بشار وحلفائه، وقد تؤدي حتى إلى زعزعة استقرار النظام نفسه، ورغبة نتنياهو في الاحتفاظ بالسلطة التي تقتضي عدم المخاطرة غير المحسوبة.
– السيناريو الثاني: استمرار المواجهة المتقطعة
تشكل حادثة إسقاط الطائرة الإسرائيلية حالة من صراع مستمر تتباين حدته بحسب رؤية كيان الاحتلال الإسرائيلي لحاجة أمنه القومي لقصف الأهداف في سوريا، دون التحول إلى حرب.
فمن المحتمل أن يسعى الطرفان لضبط التصعيد، والاكتفاء بتحقيق الأهداف الضرورية، ومحاولة لفت الانتباه لتحقيق أهداف متعلقة بملفات أخرى بالنسبة إلى نظام بشار الأسد وحلفائه الإيرانيين، فيما سيحاول كيان الاحتلال تحقيق هدفه بمنع إيران من إقامة قواعد عسكرية قرب الحدود معه بواسطة الروس والأمريكيين والأوربيين.
العنصر المرجح لهذا السيناريو أن جميع الأطراف المتصارعة تدرك أن التصعيد ليس في مصلحتها وستخسر منه، وظروفها الداخلية قد تكون سبباً في التصعيد التكتيكي لتحقيق أهداف داخلية، لكنها غير مهيأة لاستحقاقات التصعيد، كما أنها تعاني أزمات مالية، وغياب توافق القوى السياسية والاجتماعية.
يعد هذا السيناريو المرجح.
– السيناريو الثالث: الاحتواء والتهدئة
التهدئة والقبول الإسرائيلي بالوجود العسكري لإيران وحلفائها في سوريا.
ينطلق هذا السيناريو من فرضية تحقق الردع من قبل نظام بشار وحلفائه، وعدم قدرة الطيران الإسرائيلي على معاودة اعتداءاته في سوريا بحرية كما اعتاد.
احتمالية السيناريو أيضاً نابعة من عدم تنفيذ جيش الاحتلال الإسرائيلي عمليات قصف أهداف داخل سوريا غير تلك التي أعقبت إسقاط طائرته العسكرية.
يضعف هذا السيناريو أن كيان الاحتلال الإسرائيلي يَعدُّ أي وجود عسكري إيراني ببنية تحتية نوعية دائمة، تهديداً لأمنه القومي، قد يصل إلى المستوى الوجودي في المستقبل، ما لم تتمكن من عرقلته أو التفاهم معه.
ويبدو أنه لا إيران ولا حلفاؤها سيرتدعون من التهديدات الإسرائيلية، ولا الأخيرة مستعدة أن تتنازل عن أمنها القومي.
وتبقى فرص حدوث هذا السيناريو أقل.