أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية، يوم الأربعاء 1 أغسطس/آب 2018، فرض عقوباتها على وزيري العدل والداخلية التركيين، وقالت الوزارة في بيان لها: “إن العقوبات الأمريكية فرضت بطلب من الرئيس دونالد ترمب؛ رداً على اعتقال السلطات التركية القس الأمريكي أندرو برانسون”، فيما أوضحت المتحدثة باسم البيت الأبيض، في بيان منفصل، أن وزير العدل التركي عبد الحميد غُل، ووزير الداخلية سليمان صويلو، كان لهما الدور البارز في توقيف القس الأمريكي واعتقاله.
فما أسباب اعتقال القس (برانسون)؟ وما الموقف التركي تجاه هذا القرار؟ وما مصير العلاقة بين البلدين في ظل التأزم الحاصل؟
التهم التركية للقس والموقف الأمريكي
يعيش القس الأمريكي (برونسون) في مدينة إزمير التركية منذ 23 عاماً، ويرعى كنيسة إنجيلية صغيرة هناك، وقد ألقي القبض عليه قبل سنتين، ويواجه تهماً تتعلق بعلاقته بحزب العمال الكردستاني وجماعة (فتح الله غولن) اللذين تعدهما تركيا منظمات إرهابية، في حين ينفي برونسون والولايات المتحدة الأمريكية التهم نفياً قاطعاً.
محكمة العقوبات المشددة بإزمير، في جلستها الثالثة في 18يوليو/تموز الماضي، وفي إطار المحاكمة، قضت باستمرار حبس القس، وحددت جلسة 12 أكتوبر/تشرين الأول المقبل لاستكمال المحاكمة، في حين اعترض محامي القس، إسماعيل جم هالافورت، على القرار بحجة تردي حالة القس الصحية، وبَعد النظر في الاعتراض المقدم من هيئة الدفاع، قررت المحكمة إخلاء سبيل القس ووضعه تحت الإقامة الجبرية.
مؤخراً تصاعدت حدة التوتر بين واشنطن وأنقرة؛ بسبب بدء السلطات التركية بمحاكمة القس بتهمة الإرهاب، حيث قال الرئيس الأمريكي ترامب، في تغريدة له على تويتر: “ستفرض الولايات المتحدة عقوبات كبيرة على تركيا بسبب احتجازها للقس برانسون مدة طويلة، وهو مسيحي عظيم ورب أسرة وإنسان رائع”. وفي وقت سابق لوح نائب الرئيس الأمريكي، مايك بنس، بتهديد مماثل ووجهه مباشرة إلى الرئيس التركي، وقال (بنس)، وهو السياسي الأمريكي المعروف بتوجهاته الدينية المتطرفة، في مقابلة تلفزيونية: “إذا لم تطلق تركيا سراح القس وترسله إلى بلاده فستفرض الولايات المتحدة عقوبات كبيرة عليها إلى أن يتحقق ذلك”.
وفي الأول من أغسطس/آب الحالي أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية بياناً أعلنت فيه فرض عقوباتها على وزيري العدل والداخلية التركيين؛ لدورهما في اعتقال واحتجاز القس، وقالت الخزانة الأمريكية في بيانها: “هذان المسؤولان يقودان منظمات تابعة للحكومة التركية، وهي مسؤولة عن انتهاكات تركيا الصريحة لحقوق الإنسان”.
ويشمل القانون الذي تم تجهيزه بموجب قانون (ماجنيتسكي) لعام 2016 مصادرة أصول المستهدفين داخل الولايات المتحدة، وحظر دخولهم البلاد، ومنعهم من الانخراط في أعمال تجارية مع كيانات أو شركات أمريكية.
الموقف التركي تجاه العقوبات
موقف الحكومة التركية من تهديدات ترامب كان واضحا ومتطابقا حيث قال الرئيس التركي أردوغان: “ليس من اللائق أبداً استعمال لغة تهديد كهذه تجاه تركيا، ويجب أن يعلموا أننا لا نقبل أبداً لغة التهديد النابعة من العقلية الإنجيلية الصهيونية من الولايات المتحدة الأمريكية”، ثم جاء بعد ذلك الموقف الرسمي للحكومة التركية في بيان وزارة الخارجية التركية التي أعربت عن “احتجاجها الشديد” على العقوبات الأمريكية، متوعدة بالرد بالمثل، ووصفت في بيان لها الموقف الأمريكي بالعدائي، مطالبة الإدارة الأمريكية بالتراجع عن هذا القرار الخاطئ، حسب البيان، ليأتي بعد ذلك الرد المماثل على لسان الرئيس التركي نفسه، الذي قال أثناء تجمع نسوي لحزب العدالة والتنمية، يوم السبت 4 آب / أغسطس 2018: “سنجمد ممتلكات وزيرَي العدل والداخلية الأمريكيين إذا وجدت”.
أما موقف الوزيرين اللذين شملتهما العقوبات فجاء في نفس الإطار، حيث قال وزير العدل التركي، في تغريدة له على تويتر، إنه “لا يملك قرشاً واحداً في الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى خارج بلاده”، وأكد أيضاً أن هذا القرار يعد “تدخلاً في القضاء التركي”. وقريباً من موقف وزير العدل جاء موقف وزير الداخلية، الذي كتب في حسابه على تويتر: “نعم، توجد لدينا شركة في الولايات المتحدة، وهي (فيتو). لن نتركها هناك، بل سنرجعها”، يشير بذلك إلى منظمة (فيتو) وزعيمها (غولن)، المتهم بتدبير المحاولة الانقلابية في تركيا والذي ترفض واشنطن تسليمه.
وقريباً من الموقف الرسمي كان موقف المعارضة التركية، حيث أكدت أربعة أحزاب تركية رفضها للقانون الأمريكي، وأكدت في بيانها الصادر عن الكتل النيابية لأحزاب (العدالة والتنمية، والشعب الجمهوري، والحركة القومية، وإيي) أن أمريكا تدعم تنظيمات إرهابية معادية لتركيا، وتقيم معها علاقات عسكرية، كما أنها تتحفظ على (غولن) وترفض تسليمه.
الأسباب الفعلية وراء القرار الأمريكي
تعد أزمة العقوبات الأمريكية على الوزيرين التركيين من أعقد الأزمات في تاريخ العلاقة بين واشنطن وأنقرة، وهذا ما يدعونا للبحث عن الأسباب الحقيقية وراء هذا التصعيد، خصوصاً أن القرار أتى بعد ما يقارب السنتين من اعتقال (القس)، وفي ظل تفاهمات بين خارجيتي البلدين، وتحسن واضح في القضية أدى لنقل (القس) من السجن إلى الإقامة الجبرية في منزله، وكذلك في ظل تحسن شبه ملحوظ في عدد من القضايا التي تهم البلدين؛ كقضية (منبج) السورية، إضافة إلى تسلم أول طائرة F35، وهذا ما يوحي بأن هناك أسباباً أخرى وراء هذا القرار.
يرى البعض أن من بين تلك الأسباب الأخرى محاولة ترامب الحصول على أصوات ولايات (الحزام الإنجيلي) في الانتخابات النصفية المقبلة في نوفمبر/تشرين الثاني، وذلك لتعويض الخسائر المتوقعة للرئيس، وهذا ما يفسر رد الرئيس التركي (أردوغان) على القانون بأنه نابع من العقلية الإنجيلية الصهيونية، إضافة إلى الرفض التركي للعقوبات الأمريكية على إيران، ومن هنا ندرك أهمية التوقيت الأمريكي في فرض العقوبات على تركيا؛ إذ جاءت قبل موعد تطبيق العقوبات على إيران، التي كان لتركيا موقف واضح منها، حيث قال وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو: “قد تعلن دول أخرى وقف تجارتها مع إيران، لكن تركيا لن تقطع تعاونها التجاري مع هذه الدولة. الدولة التي تفرض العقوبات لا تستطيع معاقبة الدول الأخرى التي لا تنضم إليها، العالم غير قائم على هذا المنوال، ولن يكون”.
ومن الأسباب المهمة في الموضوع الموقف التركي تجاه صفقة القرن، وتبني تركيا للتوجه المعارض للصفقة. ومما يوحي بوجود أسباب أخرى وراء القرار، تعدد الملفات المتشابكة بين البلدين، والتي لا يزال الخلاف حولها قائماً، ومنها الخلاف حول صواريخ (S400) التي تسعى تركيا لشرائها من روسيا، والدعم الأمريكي لـ(بي كاكا) التي تعد بالنسبة لتركيا منظمة إرهابية، وما يتعلق بـ(غولن)، وغيرها من الملفات المفتوحة التي قد تنذر بتفاقم الأزمة، إضافة إلى انزعاج أمريكا بشكل كبير من المشاريع التركية، وعلى رأسها مطار إسطنبول الجديد، وقناة إسطنبول المائية، والجسور الحديثة، والطرق التي تعمل على جذب استثمارات تقدر بنحو 200 مليار دولار أمريكي حسب موقع (يني شفق)، وهذا ما يفسر وجود أسباب اقتصادية أخرى وراء القرار.
السيناريوهات المحتملة
الوصول إلى هذا المستوى من العلاقة بين البلدين، والتهديد المتبادل باتخاذ كل منهما إجراءات ضد الأخرى، يعد علامة على التدهور غير المسبوق في العلاقة، فعلى الرغم من أن هناك نية مشتركة لدى البلدين تتمثل في عدم تخلي أي منهما عن الأخرى فإن هناك تآكلاً متزايداً للعلاقة، وفي نفس الوقت تشق أنقرة طريقها بعيدة عن المظلة الأمريكية كلما حصل تصعيد أمريكي أو فتور في العلاقة، في حين تراجع واشنطن بشكل فعلي أسس هذا التحالف، ولهذا من الصعب الجزم بأن العلاقة بينهما دخلت في خط اللاعودة، ومن الصعب كذلك الجزم بعودة العلاقة إلى ما كانت عليه قبل 2011، وهذا ما يضعنا أمام عدد من السيناريوهات المحتملة للأيام القادمة:
– السيناريو الأول: المراوحة
وهذا السيناريو الأكثر احتمالاً إذا حصل هناك توافق جزئي في بعض الملفات، ويتمثل في بقاء الحالة على ما هي عليه من الترنح من دون تصعيد يصل إلى حد القطيعة أو تحسن لافت، وذلك لوجود عدد من الملفات المتوترة والمعقدة، وفي نفس الوقت وجود عدد من المصالح المشتركة بين البلدين، ومما يؤيد هذا السيناريو:
1- زيادة الضغط على تركيا معناه المزيد من التقارب مع روسيا، وهذا ما لا تريده أمريكا.
2- القناعة التركية بعدم العودة إلى مربع الاحتكار الغربي، والمحافظة على سياسة التوازن في العلاقة بين أمريكا وروسيا.
3- إشادة وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) بتركيا، واعتبار العلاقة معها وثيقة للغاية.
4- التواصل المستمر بين وزيري خارجية البلدين، وقناعة الطرفين بضرورة الحل الدبلوماسي، ومن ثم فإن باب التفاوض لا يزال مفتوحاً، وهذا ما يوحي بأن الأمور لن تصل إلى حد القطيعة، يؤكد ذلك عزم أنقرة على إرسال وفد دبلوماسي إلى أمريكا برئاسة مساعد وزير الخارجية سادات أونال لمناقشة العلاقات الثنائية بين البلدين وسبل حل الخلافات الراهنة.
– السيناريو الثاني: زيادة التدهور
وهذا السيناريو يتمثل في زيادة التصعيد، وفرض مزيد من العقوبات الأمريكية على تركيا، التي قد تصل إلى منع حصول تركيا على قروض من المؤسسات المالية الدولية، ورفض بيع السلاح أو تسليم طائرات F35، وفرض عقوبات أكبر على شركات تركية كبرى، وخصوصاً تلك المسؤولة عن المشاريع التركية، وإعادة النظر في إعفاء تركيا من الرسوم الجمركية، وهذا السيناريو سيؤدي إلى خنق الاقتصاد التركي وتضاعف هبوط الليرة التركية مقابل الدولار.
وهذا السيناريو وارد في ظل سياسة ترامب المتهورة، ووجود عدد من الأسباب المعقدة وراء التصعيد الأخير، وحرص ترامب في نفس الوقت على كسب ولاء الإنجيليين في الانتخابات النصفية القادمة، ومما قد يضاعف الأزمة أكثر الحرص التركي على المضي في استكمال صفقة منظومة الصواريخ الروسية التي ترى فيها أمريكا انتهاكاً من دولة حليفة لها للعقوبات المفروضة على روسيا، أو إصرار تركيا على المضي في طريق محاكمة القس، أو التعامل التركي مع طهران في ظل العقوبات التي فرضت عليها مؤخراً، أو تأزم المشهد على الساحة الفلسطينية.
– السيناريو الثالث: التحسن
وهذا هو السيناريو الأقل احتمالاً، وهناك بعض المؤشرات التي تعززه، خصوصاً إذا كانت هناك تفاهمات جديدة وتسويات متفق عليها تتعلق بالقضايا المتأزمة بين البلدين، ومما يدفع في هذا الاتجاه:
1- وجود عدد من الملفات المشتركة التي تتطلب نوعاً من التفاهم المتبادل.
2- قدرة أنقرة على تأخير ما يقرب من 75 طائرة أمريكية حال امتنعت الشركات التركية عن توريد مكونات الطائرة، لأن بعض قطع هذه المقاتلة تصنعها أنقرة، وهو ما سيؤدي إلى توقف إنتاجها مؤقتاً، وهذا ما تخشاه أمريكا.
3- قدرة تركيا على منع الوصول الأمريكي إلى قاعدة (إنجرليك) الجوية.
4- ما تمثله تركيا من أهمية جيوسياسية تجعل من الصعب توقع أي استراتيجية أمريكية أو غربية في المنطقة دون تعاون وتنسيق متبادل مع أنقرة.