يشهد قطاع غزة الفلسطيني تصعيداً عسكرياً من وقت لآخر بين كيان الاحتلال الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية، متزامناً مع الحديث عن مفاوضات سياسية للتهدئة، والاتفاق على هدنة لخمس سنوات، في ظل تعدد الملفات (السياسية والأمنية والاقتصادية) وتداخلها وتعقيداتها على المستوى البيني للطرفين، وتقاطع المصالح وتشابكات علاقتهما الإقليمية والدولية، في مرحلة من الضعف والتشظي تمر بها دول المنطقة العربية، وانحياز الإدارة الأمريكية غير المسبوق للاحتلال الإسرائيلي، وسعيها إلى عقد صفقة القرن الهادفة لتسوية القضية الفلسطينية أو تصفيتها، بحسب منتقدي الصفقة.
ويعاني قطاع غزة منذ سنوات من حصار اقتصادي خانق تسبب بأزمة إنسانية حادة، تهدد بانفجار الأوضاع.
فما الأسباب الرئيسية وراء هذا التصعيد؟ وإلى أي مدى يمكن أن يصل؟ وما إمكانية التوصل إلى هدنة تمتد خمس سنوات في ظل المستجدات على الساحة الدولية والإقليمية؟
سياقات التصعيد وملفاته
التصعيد في غزة يأتي ضمن سلسلة من التوترات والاشتباكات المتقطعة، منذ آخر حرب بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي عام 2014. وقد أشعل قرار إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نقل سفارتها إلى القدس، موجة احتجاجات غاضبة، شكلت مسيرات العودة- التي ابتدعها فلسطينيو القطاع، نهاية مارس/آذار الماضي 2018 بالتزامن أيضاً مع الذكرى السبعين للنكبة- ذروتها، ومثَّلت تحدياً كبيراً للاحتلال الإسرائيلي، خاصة لكثافة المشاركة الشعبية، على مدى أيام، فلأول مرة ينضم الفلسطينيون بهذا العدد الكبير إلى مسيرات العودة للأراضي المحتلة عام 1948، وقد استطاعت تلك المسيرات أن تلفت نظر العالم وتعاطف كثيرين، من خلال المظاهرات التي شهدتها بعض العواصم والمدن، وإعادة الصراع إلى حقيقة بداياته المتمثلة بـ(الاحتلال)، والذي تسبب تعامله العنيف معها بتعاطف كثيرين حول العالم.
واستخدم نشطاء فلسطينيون طائرات ورقية وبالونات حارقة أطلقوها باتجاه المستوطنات المحاذية لقطاع غزة منذ بداية مسيرات (العودة)، ما أسفر عن احتراق آلاف الدونمات الزراعية، ويرفض الفلسطينيون تسريبات (صفقة القرن)، التي تسوقها الإدارة الأمريكية للتوصل إلى اتفاقية سلام بين الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين، خاصة بعد إقرار الاحتلال قانون الدولة القومية.
وفي سياقات التصعيد التي يعتمدها الاحتلال الإسرائيلي، سبق أن شن سلسلة هجمات في الأشهر الأخيرة ضد الإيرانيين في سوريا، وقصف عدة مواقع عسكرية، استهدفت مخازن أسلحة وأنظمة عسكرية سورية وإيرانية.
وتحاول مصر والأمم المتحدة التوسط للتوصل إلى هدنة شاملة لمنع تصعيد قادم، وعقد صفقة تبادل للأسرى، وتخفيف المعاناة الاقتصادية الشديدة في غزة. ونقلت وكالة رويترز للأنباء، عن مسؤولين في حماس، أن فصائل فلسطينية توجهت إلى القاهرة لمناقشة شروط وقف إطلاق النار مع إسرائيل التي سيجتمع مجلس وزرائها الأمني المصغر يوم الأربعاء 15/8/2018 لبحث هذا الأمر.
محددات مستقبل الصراع بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال
تتداخل الملفات الإنسانية والاقتصادية مع الملفات الأمنية والسياسية، التي تشكل محددات حاكمة لمستقبل الصراع بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، بعض هذه المحددات ثابتة ومستمر تأثيرها؛ كقضية الاحتلال التي تعد المحدد الرئيسي للصراع، ومصدراً للمحددات الثانوية التي يمكن أن يشكل الاتفاق حولها أو بعضها فرصة للتهدئة وعقد اتفاقية هدنة بين الجانبين؛ كتخفيف الحصار المفروض على قطاع غزة، الذي اشتد في الفترة الأخيرة عقب مسيرات العودة، وتبادل الأسرى بين الجانبين، والمصالحة الفلسطينية، ويبقى سلاح المقاومة الفلسطينية محددَ تحدٍّ لمصالح الطرفين وأمنهم، ففي الوقت الذي تتمسك به المقاومة، يسعى الاحتلال إلى تجريد الفلسطينيين منه.
وقد كشفت وسائل إعلام الاحتلال الإسرائيلي عن زيارة سرية لرئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، لمصر ولقائه عبد الفتاح السيسي، في مايو/أيار الماضي 2018، للتباحث حول عقد هدنة طويلة مع الفصائل الفلسطينية. ومن المرجح أن مصر تفضل عودة السلطة الفلسطينية لحكم قطاع غزة، ولو بالتدريج.
دوافع التصعيد
أولاً: الاحتلال الإسرائيلي
يعتمد الاحتلال الإسرائيلي على سياسة الإكراه والإغراء للتأثير في ردود أفعال حركات المقاومة الفلسطينية، وتحديداً حركة حماس؛ وذلك بتصعيد الاعتداءات، أو بالإغراءات بفتح المعابر وتخفيف الحصار.
ويحاول قادة الاحتلال الإسرائيلي استعادة قوة الردع التي خسرها جيشه خلال الحروب الماضية التي انتهى غالبها دون أن تحقق أهدافها المعلنة. ومنذ صعود الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، المتزامنة مع حالة عدم الاستقرار التي تمر بها دول المنطقة، يتبنى الاحتلال الإسرائيلي سياسات متشددة تجاه الفلسطينيين، حيث يحاول استثمار ولاية الرئيس دونالد ترامب، وضوء إدارته الأخضر له.
وثمة دوافع خاصة بالمستوى السياسي لقادة الاحتلال الإسرائيلي؛ حيث يرون أن التصعيد العسكري وتشديد الحصار على قطاع غزة يعزز مكاسبهم السياسية (وتحديداً وقت الانتخابات)، في الوقت الذي قد لا توافق الجهات الأمنية والعسكرية على التصعيد؛ لإدراكها -المتولد من تجارب الصراعات الماضية- بعدم القدرة على تحقيق الأهداف العسكرية مع غياب الرؤية حول مستقبل قطاع غزة، وأزمة سكانه.
وتشكل استعادة الأسرى الإسرائيليين، واستكمال تعزيز القدرات الدفاعية، أولوية في هذه المرحلة إذا ما ضمن الاحتلال الحد من تطوير المقاومة لقدراتها، ومن ثم قد يفضل الاحتلال خيار التهدئة على التصعيد العسكري.
ثانياً: الجانب الفلسطيني
على الرغم من استمرار حالة الانقسام الفلسطيني، فقد أجمعت مختلف الفصائل على رفض التصعيد الإسرائيلي والتحذير منه، داعية لوقفه، حيث طالب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، 9/8/2018، المجتمع الدولي بـ”التدخل الفوري والعاجل لوقف التصعيد الإسرائيلي، وعدم جر المنطقة إلى مزيد من الدمار وعدم الاستقرار”.
بدورها تعمل فصائل المقاومة الفلسطينية، وفي طليعتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على المواءمة بين سياسة ضبط النفس وبين سياسة الردع، حيث تعطي الأولوية لتخفيف الحصار عن قطاع غزة، والعودة للوسائل السلمية في مقاومة الاحتلال، مع التركيز على إبرام صفقة تبادل جديدة للأسرى، وإفشال صفقة القرن، والمحافظة على مكتسبات المقاومة، وتحقيق المصالحة الفلسطينية، وتطبيع علاقاتها مع محيطها الإقليمي.
السيناريوهات
طبيعة الصراع المستمر، وصيرورة الحروب والمفاوضات الماضية، ورؤية كل من الاحتلال الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية، ممثلة بحركة (حماس) التي تسيطر على قطاع غزة، تجعل سيناريوهات التصعيد العسكري وإمكانية التوصل إلى هدنة، في ثلاثة اتجاهات:
– سيناريو الحرب المفتوحة/ الشاملة
يرى كثير من مراكز قوى الاحتلال في الحرب ضرورة لوضع حد لتطور قدرات المقاومة الفلسطينية، وتراكم خبراتها وإمكاناتها، وانطلاقاً من الرغبة الإسرائيلية في احتفاظها بسبق المبادرة السياسية والعسكرية والتحكم في ضمان أمنها القومي، وعدم السماح للفلسطينيين بإدارة الصراع وجرها في الوقت الذي يلائمهم وبالأدوات والأساليب التي تناسبهم.
ويسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى استثمار حالة الضعف والتباين التي تمر بها دول المنطقة العربية، واستغلال تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي شهدت الإدارة الامريكية انحيازاً غير مسبوق في عهده لمصلحة الاحتلال، تكلل بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وتبنيه الرؤية الإسرائيلية للتسوية المزعومة.
قرار الحرب هو بالدرجة الأولى قرار سياسي، وإذ إن التشكيلة الحكومية قد ضمت الأحزاب اليمينية المتشددة، التي تسعى للتصعيد ضد الفلسطينيين، والتي تميل مع وزراء آخرين للحلول العسكرية، فإن كل ذلك يعد عوامل قد تعزز هذا السيناريو. لكن التباين داخل نخبة الاحتلال السياسية والعسكرية يجعل تحقق هذا السيناريو على المدى المتوسط أكثر قابلية منه على المدى القريب، ومن ثم فإن إمكانية التوصل إلى اتفاق هدنة واردة، ولكن استمرارها طويلاً مشكوك به.
– عوامل تضعف السيناريو
لا توجد لدى الاحتلال الإسرائيلي ضمانة بقدرته على تحقيق الحرب لأهدافها، والقدرة على تحمل خسائرها وتبعاتها السياسية والعسكرية، فالاحتلال يستحضر تجارب الحروب الماضية، وخاصة الأخيرة التي تجاوزت مدتها الخمسين يوماً، بالإضافة إلى غياب أي خطة مرضية للتعامل مع قطاع غزة مستقبلاً، وتعدد الملفات التي تشغل اهتمامات قادة الاحتلال على المستوى الداخلي المتعلقة بالمحاكمات بتهم الفساد والتنافس على صدارة المشهد السياسي، وكذلك على المستوى الخارجي، وأبرزها الجبهة الشمالية، واعتماد الاحتلال الإسرائيلي على الحصار وسياسة النَّفَس الطويل، وإحداث اختلالات داخل الجبهة الفلسطينية الداخلية.
حماس من جهتها من المحتمل أنها تفضل الهدنة، وقد تعمل على تجنب المواجهة الشاملة في ظل حالة الاختلالات الإقليمية والدولية، وضعف الداعمين الإقليميين الذين يتعرضون لضغوط قوية وتراجع الاهتمام بحقوق الإنسان، خاصة بعد اعتياد الرأي العام الدولي على الفظائع المرتكبة دون أن يحرك ساكناً.
– سيناريو ملازمة التصعيد المتقطع والمفاوضات
تشير سلسلة الهجمات التي شنها الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية إلى اعتماد الطرفين تكتيك التصعيد المقنن والمتقطع (تكتيك حافة الهاوية)؛ المتمثل برفع وتيرة التصعيد إلى نقطة الذروة دون السماح بتحوله إلى حرب شاملة، ومن ثم العودة للتهدئة، حيث يسعى كل من الطرفين إلى اختبار القدرات الخاصة به، وتوجيه رسائل ردع شديدة لعدوه لاستكشاف إمكاناته، ولفت أنظار العالم لمصالحه، بالتزامن مع المباحثات بواسطة الوسيط المصري والأمم المتحدة.
جيش الاحتلال قد يعمل على تأجيل المواجهات حتى اكتمال بناء الجدار العازل تحت الأرض، المزود بأجهزة إلكترونية، حول قطاع غزة بهدف حرمان المقاومة من سلاح الأنفاق، وتعزيز قدرات القبة الحديدية للحد من فاعلية صواريخ المقاومة الفلسطينية، التي أثبتت في التصعيد الأخير قدرة كثير من صواريخها وتكتيكاتها على التغلب على القبة الحديدية، وخاصة توجيه الصواريخ بمستوى أفقي منخفض جداً، بالإضافة إلى شروع الاحتلال الإسرائيلي في بناء سواتر أمام المنشآت البحرية لعرقلة الغواصين الفلسطينيين.
يعد هذا السيناريو الأمثل؛ لارتباطه بمفاوضات التهدئة وتخفيف الحصار، وقبل ذلك غياب القدرة على تحقيق أي من الطرفين أهدافه، وامتلاكهما خبرة في التحكم بالتصعيد دون أن يفضي إلى مواجهة شاملة، وإدراكهما لتبعات المواجهة الشاملة، بالإضافة إلى وجود تفاهمات ووساطات للتهدئة سابقة، ويجري تفعيلها، وانشغال الطرفين بملفات أخرى أكثر أولوية.
– سيناريو التهدئة مدة طويلة
تتوسط مصر والأمم المتحدة بين الاحتلال الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية، وتدير المفاوضات التي تهدف إلى التوصل إلى هدنة بين الطرفين تصل مدتها إلى خمس سنوات، بحسب ما سُرب، مقابل إيقاف الهجمات وتخفيف الحصار عن قطاع غزة ومنه، وقد تشمل عقد صفقة تبادل الأسرى.
وعلى الرغم من ظهور مؤشرات انفراجة في حالة التصعيد التي شهدها قطاع غزة مؤخراً، متمثلة بسماح الاحتلال الإسرائيلي باستئناف دخول البضائع التجارية إلى قطاع غزة، يوم الأربعاء 18/8/2018، وتوسعة المنطقة المسموح فيها بصيد الأسماك من ثلاثة أميال إلى تسعة أميال من الشاطئ قبالة الساحل الجنوبي، وإلى ستة أميال في الشمال، وهي أقرب منطقة من حدود الأراضي المحتلة عام 1948؛ على الرغم من ذلك فإن انهيار الهدنة وارد في أي لحظة، نتيجة طبيعة الصراع وتجاربه التاريخية، والتناقض الكبير بين مصالح كل طرف وأهدافه، وغياب الضمانات، وخاصة إذا ما عاد الاحتلال لسياسة الاغتيالات.
قد يكون هدف الاحتلال الإسرائيلي من هذه المفاوضات ومضمونها تخدير المقاومة الفلسطينية، وصرف جهودها عن بناء قدراتها والاستعداد للحرب؛ ثم مباغتتها بحرب مفتوحة، بعد أن تكون قد أضعفت جبهة المقاومة وحاضنتها الشعبية.