مقدمة
عرف العراق منعرج تغيير راديكالي في تاريخه المعاصر بعد الغزو الأمريكي في 9 أبريل/نيسان 2003 وإسقاط نظام حكم صدام حسين في ذات التاريخ، وعايش -ولا يزال يعايش- تبعات هذه المرحلة الانتقالية؛ من فوضى الاقتتال، وضعف مؤسسات الدولة، وانتشار الفساد، والاحتجاجات الشعبية، وكذلك ارتهان القرار السيادي لمصالح القوى الإقليمية والدولية المتنازعة في المنطقة وخياراتها.
وتميّزت مرحلة ما بعد 2003 بتحول على مستوى الهوية الطائفية للفاعلين السياسيين مع تصاعد هيمنة المجموعات الشيعية السياسية والعسكرية على المشهدين السياسي والأمني- خاصة أنّ التاريخ العراقي المعاصر قد تميّز بتولي قيادات ذات مرجعية سُنيّة مسؤولية الدولة العراقية الحديثة بعد تأسيسها عام 1923 والمناصب العليا فيها، رغم بعض الاستثناءات- وذلك بعد أن أعاد الاحتلال الأمريكي للعراق بلورة المشهد السياسي على أساس مقوّمات الهوية الطائفية، تحت عناوين التوافق وتقاسم السلطة؛ فقد تضمّن الدستور العراقي الدائم لعام 2005 نظاماً سياسياً أساسه فيدرالي برلماني تعددي. نظريّاً هيأ الدستور لمقوّمات تقاسم السلطة وإدارة الشأن العام في (العراق الجديد) بمقاربة الديمقراطية الفيدرالية إلى جانب الديمقراطية التوافقية المُستبطِنة لخصائص السياق العراقي، بمراوحتها بين الصراعات الطائفية والتموقع داخل توازنات القوى المحلية، وكذلك الاستجابة لمخططات وخيارات القوى الإقليمية والدولية المتنفذة ميدانياً وسياسياً.
لعلّ التنصيص المتواصل على التنوّع الطائفي والعرقي في الدستور، بوصفه ميزة اجتماعية وتاريخية للمجتمع العراقي، لم يؤسس لحوار سياسيّ، أو ثقافة تعايش وتوافق بين النخب المتباينة إيديولوجياً، بقدر ما أنعش طموحات قومية وطائفية طُمست على امتداد تاريخ الدولة الحديثة في العراق؛ مثل الحكم الذاتي للأكراد، وكذلك الهيمنة الشيعية على مراكز صناعة القرار، ونجم عن ذلك ارتفاع مستويات العنف الجماعي على خلفيات الانتماء الطائفي، وزعزعة شرعية النظام السياسي الجديد. هذا الأخير وبالرغم من اتباع المبادئ الديمقراطية الكبرى لإدارة الحكم، استثمر في التسييس المفرط للبعد الطائفي لهويّة المجتمع العراقي التي بدورها عرقلت الإصلاحات الاقتصادية، وزادت من المشاكل الاجتماعية، إلى جانب إفشالها لمسارات الديمقراطية، وتغذية الاصطفافات الطائفية كأحد مسببات العنف والحرب الأهلية التي شهدتها العاصمة ومدن أخرى بين عامي 2006 و2008، وما زالت مستمرة بأشكال مختلفة.
إذاً بعد عقد ونصف على صعود الأحزاب الشيعية إلى السلطة، والأحداث الكبيرة التي مرّ بها العراق خلال هذه المرحلة، والمشكلات التي يعاني منها، والتحديات التي تواجهه، بات من المهم دراسة هذه التجربة وتفكيك ديناميات اتخاذ القرار فيها خلال خمسة عشر عاماً من الحكم، بالإضافة الى تقييم خياراتها على الواقع العراقي، ودرجات تأثرها بالاصطفاف الطائفي؛ من خلال إعادة استقراء مقاربة القيادات الشيعية للحكم في مرحلة ما بعد 2003 إلى حدود انتخابات 2018، كتجربة فعلية وجديدة، ليس فقط في السياق العراقي بل أيضاً في كلّ المنطقة العربية، باستثناء مجموعات سياسية وميليشيات مسلحة مثل حزب الله (لبنان) والحوثيين (اليمن).