ربّما يختلف التُّونسيون حول طبيعة الأزمة السياسيّة التي تعصف بتونس وأسبابها وتداعياتها القريبة والبعيدة، خُصوصاً بعد قرارات الرئيس قيس سعيد بتجميد عمل البرلمان وإقالة الحكومة، إلا أنّه لا أحد منهم سيختلف حول حقيقة الوضع الاقتصادي الكارثي والمتدهور.
فإذا كانت البلاد تعيش حالة ديمقراطية فريدة وريادة إقليمية ثابتة مكّنتها من أن تكون منارة للانتقال السلمي للسلطة في العالم العربي فإن ذلك لا يُخفي قطعاً أزمة اقتصادية كامنة منذ الأيام الأولى للثورة، فشلت خلالها كل الحُكومات المتعاقبة في إحداث تغيير اقتصادي واجتماعي، والنهوض بمُستوى معيشة المواطن التونسي، بل حافظت على ميكانيزمات تسيير وإدارة البلاد بفكر ما قبل سنة 2011، في مواصلة لسياسة التطبيع مع الفساد والتخادم مع مصالح اللوبيات ورجال الأعمال والعائلات الثرية، مع مواصلة التخطيط المركزي الذي عمّق الهُوّة بين مدن البلاد بجعل المناطق الداخلية مُنفّرة ومُقصاة.
وقد دفعت الطبقات الاجتماعية المُهمّشة والمُفقّرة تكلفة الخيارات الحكومية اللاوطنية واللاشعبية، وأرقام النزيف الاقتصادي واضحة وضوح الشمس للعيان، فنسبة التضخّم تجاوزت 5.7 بالمئة خلال شهر يونيو/حزيران الماضي، مع تراجع نسبة النمو التي تعاني في الأصل ضعفاً متواصلاً منذ 2013، وارتفاع حجم المديونية التي تجاوزت 100 ألف مليار من الديون الخارجية، وتواصل انهيار الدينار أمام اليورو والدولار، إضافة إلى عجز الميزان التجاري الذي تجاوز 20 مليار دينار، وضعف مخزون احتياطي العُملة الصعبة، كما ارتفعت نسبة البطالة وتجاوزت 20 بالمئة (خاصّة في أوساط الشباب وأصحاب الشهادات العليا)، وتزايد هجرة الأدمغة.
ولم تكن هذه الإحصائيات وليدة اللحظة، بل هي نتيجة أزمات عديدة عانتها البلاد منذ اندلاع ثورة الياسمين عام 2010، فقد عاشت تونس فترة عدم استقرار سياسي وتحالفات حزبية هشّة، وعانت كذلك وضعاً أمنياً متذبذباً بسبب العمليات الإرهابية التي استهدفت بعض مناطق البلاد والتي أدّت إلى تراجع السياحة.
وأمام هذه الأوضاع السيئة أقدم الرئيس قيس سعيد على إقالة الحكومة وتعليق عمل البرلمان في 25 يوليو/تموز الماضي، عملاً بأحكام الفصل 80 من الدستور، ويقول سعيد إنّ تدابيره مُؤقتة واستثنائية، وإنّ الهدف منها إنقاذ الدولة التونسية إثر احتجاجات شعبية واسعة طالبت بإسقاط كامل المنظومة الحاكمة، ومحاكمة الأحزاب، في ظلّ تنامي الفساد وفي ظلّ أزمات سياسية واقتصادية وصحية خانقة، لكنّ ورقة الاقتصاد قد تتحوّل من سلاح في يد قيس سعيد، إلى ورقة ضغط عليه تُهدّد الخُطوات التي أقدم عليها مؤخراً وتُهدّد معها السيادة التونسية.
أبرز تحديات حكومة الرئيس
أولاً: تصنيف وكالة موديز
في آخر تطورات الملف الاقتصادي، أعلنت وكالة الترقيم الأمريكية موديز عن تخفيض ترقيم تونس السيادي على المدى الطويل بالعُملة الصعبة والعُملة المحلية إلى “سي إي إي”، مع المحافظة على الآفاق السلبية، كما راجعت موديز ترقيم البنك المركزي التونسي نحو الانخفاض من ب 3 إلى سي إي إي1 مع المحافظة على آفاق سلبية، لكونه المسؤول قانونياً عن الدفعات المتعلقة بكل رقاع الحكومة.
ويُخفّض الترقيم السيادي لتونس، للمرة الثانية خلال عام، ووضعها في خانة البلدان عالية المخاطر، من قُدرتها على الاقتراض من الأسواق العالمية بنسب فائدة معقولة، كما يضعها في خانة البلدان المُتعثّرة عن سداد ديونها والتي تعاني مشكلات اقتصادية كبرى، وهو ما يمكن أن يؤدي في نهاية الأمر إلى ضرورة التوجّه لنادي باريس لإعادة هيكلة الدّيون، الذي يفرض برامج إلزامية لإصلاحات هيكلية.
وتُفسّر الوكالة هذا التخفيض بضعف الحوكمة، وتنامي عدم الثقة بقدرة الحكومة على وضع إجراءات لضمان الوصول إلى تمويلات من أجل الاستجابة للحاجيات المالية المتنامية من الموارد الخارجية خلال السنوات القادمة، وعدم الثقة بإجراء إصلاحات اقتصادية كبيرة خاصّة بعد الإجراءات التي قام بها قيس سعيد بتعطيل عمل المُؤسّسات وغياب محكمة دستورية، إضافة إلى غياب الآفاق المستقبلية وعدم وضوح برنامج الرئيس التونسي.
ونبّهت الوكالة أنّ خطر عدم القُدرة على ضمان موارد مالية خارجية من شأنه أن يخلق ضُغوطاً على السيولة في الداخل، ما يُمكن أن يُؤدّي في نهاية المطاف إلى عجز عن سداد خدمة الدّين، مُؤكّدة أن تونس تتمتع حالياً برصيد من العملة الصعبة مُطمئن نوعاً ما على قدرتها على سداد ديونها على المدى القصير.
ويُعدّ تكليف الرئيس قيس سعيد للسيّدة “نجلاء بودن” بتشكيل الحكومة خُطوة مُهمة نحو المُفاوضات مع المُقرضين المُحتملين، وتطمين المجتمع الدولي بأنّ الخطوات التي قام بها تندرج ضمن الإجراءات المُؤقتة التي تقتضيها صعوبة المرحلة الراهنة، لكن بغياب توافق مجتمعي واسع حول الإصلاحات اللازمة (أجور الوظيفة العمومية، ودعم المحروقات، وإعادة هيكلة المؤسسات العمومية) سيبقى الأمر تحدّياً ولن يلاقي قبولاً مجتمعياً.
ثانياً: موقف الإدارة الأمريكية
التقى السفير الأمريكي بتونس مع وزيرة المالية لمُناقشة المبادرات المشتركة بين الولايات المتحدة وتونس، وتطرّق السفير إلى الوضع المالي الحالي لتونس وآفاق الإصلاح الاقتصادي، وقد اشترطت الإدارة الأمريكية لتقديم مُساعدات اقتصادية عاجلة توضيح المدى الزمني للمرحلة الانتقالية والعودة إلى الحياة الدستورية، وضرورة وفاء الحكومة التونسية بالتزاماتها باحترام حقوق الإنسان وحرية الصحافة والتعبير، مع عدم توظيف المحاكم العسكرية للتحقيق في قضايا مدنية، وإطلاق حوار وطني يشمل جميع مكونات المشهد السياسي في تونس.
وسعياً لطمأنة الجانب الأمريكي استقبل عثمان الجارندي، وزير الخارجية التونسي، يائيل لمبارت، مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، وقد تناول اللقاء تطورات الوضع في تونس، حيث أبرز الجارندي أنّ تشكيل الحكومة الجديدة يُعدّ أولى الخطوات المهمّة على درب استجابة الرئيس لمطالب الشعب التونسي بتصحيح المسار الديمقراطي، وأكّد في الآن نفسه تمسك تونس بدولة القانون والمُؤسسات وضمان الحقوق والحريات، في انتظار استكمال بقية الخُطوات التي من شأنها طمأنة شركاء تونس الدوليين، مُشيراً إلى أهمية الدور الأمريكي في مساعدة تونس على المُضي قدماً في برامجها التنموية وإصلاحاتها الهيكلية.
ثالثاً: موقف صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي
أكّد صندوق النقد الدولي، على لسان مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى جهاد أزعور، أنّ الصندوق مُستعدّ لتقديم المساعدة الإضافية لتونس حتّى يُمكّنها من مواجهة التحدّيات الاقتصادية والتأثيرات الناجمة عن جائحة كورونا، شرط أن تقوم تونس عاجلاً بإصلاحات اقتصادية ذات أهداف مُحدّدة لتحقيق استقرار اقتصادها وتحسين وضع ماليتها العمومية.
ولعلّ أبرز التحدّيات الاقتصادية التي تواجه تونس اليوم تتمثّل في استعادة ثقة صندوق النقد الدولي الذي كان مُتردداً في موقفه من مساعدة تونس، نظراً لعدم استكمال برنامج إصلاح اقتصادي وقع بين الطرفين في سنة 2016، رافقه قرض بقيمة 2,88 مليار دولار، بسبب التأخر في تنفيذ خطّة الإصلاحات التي طلبها الصندوق.
لكنّ حاجة تونس إلى المُساعدة الخارجية تتجاوز السيولة النقدية، فهي بحاجة إلى استعادة ثقة المستثمرين الأجانب بالبلاد، وتشجيع المؤسسات الاقتصادية العالمية على زيادة حجم استثماراتها التي ارتبكت مؤخراً بسبب التوترات السياسية الحاصلة، وقرارات الرئيس الأُحادية، كذلك تحتاج تونس إلى دعم الاتحاد الأوروبي التي أمضت معه اتفاقية شراكة منذ سنة 2005.
ربّما نفهم أسباب الضغط والتدخّل الدوليين في شؤون تونس الداخلية بعدم قُدرة تونس على الاكتفاء بذاتها اقتصادياً من ناحية، وأنّها ترزح تحت عبء اتفاقية شراكة غير مُتكافئة مع الاتحاد الأوروبي منذ سنوات، وأنّها لم تتخذ خُطوات عملية نحو تحرير الاقتصاد الوطني، بل وقع العكس؛ حيث تعمّقت الحاجة إلى القروض والهبات مع تراجع القدرة على الإنتاج وغياب رؤية مستقبلية واضحة.
ضرورة إصلاح الوضع السياسي
مع تنامي الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وتزايد الضغوط الخارجية، أصبح من الضروري لتونس مُراجعة أركان البيت الاقتصادي والمالي الداخلي للخروج من أزمتها الخانقة، ووضع خطة واضحة للتعبئة المالية تكون الأقل ضرراً على استقلالية القرار الوطني، وتقديم تصور اقتصادي مرحلي للإنقاذ العاجل بالتشاور مع المُنظّمات الاجتماعية والاقتصادية والمدنية، علاوة على تشجيع بعض القطاعات التي من شأنها مُساعدة الدولة على تعبئة الموارد، كقطاع الفلاحة والفوسفات والمحروقات، والتحضير جيداً للتفاوض مع صندوق النقد الدولي، مع ضرورة الانفتاح على القوى الدولية الأخرى، كروسيا والصين، دون التخلّي عن علاقاتها القوية مع واشنطن والاتحاد الأوروبي.
وهذا لا يمكن أن يتحقّق على أرض الواقع دون إصلاح الوضع السياسي الحالي الذي يحتاج إلى تحديد آليات وآجال العودة إلى الوضع الطبيعي، بالإعلان عن انتخابات تشريعية سابقة لأوانها، وتنقيح القانون الانتخابي، وإطلاق حوار شامل مع النقابات والمنظمات الوطنية والأحزاب السياسية، والانفتاح على الشباب الثائر والمُهمّش في المناطق كافة.
يمكن القول إن الاقتصاد هو المحرّك الرئيس لميدان السياسة، وإنّ كل الشراكات يعززها الاقتصاد الذي يجمع ما تُفرّقه السياسة، كما أنّ أي تفاوض مع القوى الأجنبية دون أرضية سياسية صلبة لن يساعد البلاد على تجاوز أزمتها الخانقة. ومن ثم فالتحدي الأبرز للرئيس التونسي قيس سعيد هو إيجاد حلّ للأزمة الاقتصادية من خلال نيل ثقة الصندوق والبنك الدوليين والمانحين الأجانب وعودة تدفق الاستثمارات الأجنبية، وفي حال فشل في تحقيق ذلك، فإن الشارع التونسي الذي لم يهدأ بعد قد يتّجه إلى رفض النظام القائم.