شهدت السنة الأخيرة (الرابعة) من رئاسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب موجة تطبيع بعض الأنظمة العربية مع الاحتلال الإسرائيلي، تزعمت الإمارات مشروع التطبيع بالإضافة إلى مملكة البحرين، وكذلك القيادة الجديدة بالسودان، وقد رحب النظام المصري والعُماني بتطبيع العلاقات، وبينما رفضت دول الجزائر والمغرب وتونس اللحاق بالتطبيع، اشترطت السعودية موافقة الاحتلال الإسرائيلي على إقامة دولة فلسطينية.
ورغم خسارة الرئيس دونالد ترامب للانتخابات وفوز منافسه جو بايدن بالرئاسة استمرت خطوات وأخبار التطبيع، ومنها زيارة وزير خارجية مملكة البحرين عبد اللطيف الزياني لتل أبيب (18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020).
يتناول تقدير الموقف سياقات موجة التطبيع الأخيرة، ويبحث في دوافع الأنظمة العربية، ويستشرف مستقبل التطبيع العربي (الرسمي) مع الاحتلال الإسرائيلي بعد وصول الرئيس جو بايدن إلى الحكم في الولايات المتحدة، في ظل استمرار الرفض الشعبي.
سياقات موجة التطبيع
حدثت موجة التطبيع في ظل اضطرابات أمنية وتحديات اقتصادية تمر بها العديد من دول المنطقة العربية، وبعد موجة ثورات الربيع العربي والاعتقاد بأن الولايات المتحدة شكلت لها غطاء من خلال تخليها عن دعم تلك الأنظمة، وكان لصعود إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب (2017)، التي تعد أكثر الإدارات الأمريكية مجاهرة بانحيازها لكيان الاحتلال الإسرائيلي وتحقيق أهدافه، الدور الأبرز في توظيف مكانة الولايات المتحدة لدفع الدول العربية للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.
وقد أضعف الرئيس دونالد ترامب دور المؤسسات الأمريكية المعنية بصناعة قرار السياسة الخارجية الأمريكية لحساب شخصه، وربما تداخلت مصالحه الشخصية مع المصالح العامة للولايات المتحدة.
عمل الرئيس دونالد ترامب على تحقيق مصالح الاحتلال الإسرائيلي المخالفة للقرارات والقوانين الدولية بصورة مباشرة، بهدف ضمان إعادة انتخابه بجولة رئاسية ثانية؛ من خلال كسب تأييد اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، فتبنى ما سمي بصفقة القرن، وتعمد فرض الخطوات الإجرائية لها، وأبرزها نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، والاعتراف بسيادة الاحتلال الإسرائيلي على هضبة الجولان المحتلة، ومحاولة إعطاء مشروعية للمستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967، ولعل أخطر خطوة قام بها هي دفع الدول العربية لتطبيع العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي دون أي تنازلات يفترض أن يقدمها الاحتلال كاستحقاقات مرتبطة بعملية السلام، غير أن ذلك لم يمكن اللوبي الصهيوني من إعادة ترامب إلى البيت الأبيض مجدداً، حسب المؤشرات الحالية.
دوافع الأنظمة المطبعة والإدارة الأمريكية
تلتقي دوافع الدول المطبعة في ملفات وتتباين أهميتها وأولوياتها في ملفات محددة وفق منظور مصلحة كل منها، فدوافع الاحتلال الإسرائيلي يغلب عليها الطابع الاستراتيجي، في حين أن دوافع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد تكون تكتيكية، تتعلق بالحالة الأمريكية الداخلية، وإن كانت نتائجها تصب في الاتجاه الاستراتيجي، أما بالنسبة لدوافع الأنظمة العربية المطبعة حديثاً، فهي مزيج من الدوافع الاستراتيجية للدول الصغيرة وتكتيكية ربما أكثر في حالة السودان.
دوافع الاحتلال الإسرائيلي
– فرض التطبيع وشرعنة الإنجازات التي حققها الاحتلال الإسرائيلي من خلال الانتقال بالعلاقة مع الدول العربية إلى مربع جديد يتجاوز الثوابت التي حددت لتطبيع العلاقات، وفي مقدمتها استحقاقات المبادرة العربية للسلام التي اقترحتها المملكة العربية السعودية وأيدتها جامعة الدول العربية.
– محاصرة الفلسطينيين؛ سلطة وحركات مقاومة، وتجفيف مصادر دعمها السياسي والمادي وحواضنها السياسية والشعبية في الدول المطبعة وغيرها.
– تصدير الاحتلال الإسرائيلي صورته على أنه حليف استراتيجي بدلاً عن كونه مهدداً، بالاعتماد على تضخيم خطورة أدوار القوى الإقليمية، وكذلك المكونات السياسية والجماعات الإصلاحية.
دوافع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب
هناك دافعان رئيسيان لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ الأول خاص متعلق بشخص الرئيس دونالد ترامب، القادم من الاقتصاد إلى حقل السياسة والحكم، حيث حرص على كسب ثقة اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة بهدف ضمان فوزه في الانتخابات الرئاسية بجولة ثانية، ووفقاً لنتائج الانتخابات فقد خسر الرهان، رغم تشبثه وعدم اعترافه بالنتيجة، ومراهنته على الطعون وانتخاب المجمع الانتخابي؛ وهم مندوبو الهيئة الناخبة بالولايات.
الدافع الثاني متعلق باللوبي الصهيوني، الذي حرص على استغلال رئاسة دونالد ترامب للولايات المتحدة في تسريع تحقيق أهدافه الاستراتيجية، التي يصعب على المؤسسات الأمريكية، خصوصاً في ظل إدارة الديمقراطيين، تحقيقها دون مقابل للفلسطينيين.
دوافع الأنظمة العربية المطبعة مع الاحتلال الإسرائيلي
تتعدد دوافع التطبيع للدول العربية المطبعة حديثاً مع الاحتلال الإسرائيلي، فدوافع بعضها يغلب عليها الجانب الأمني، والمصالح السياسية والاقتصادية، وإن كان أغلبها يشترك في الجانب الأمني، وفيما يلي عرض لأبرز الدوافع مع الإشارة للدولة الأكثر أنموذجاً.
– الحماية الأمنية، حيث تدرك بعض الدول المطبعة حجم إمكاناتها وخطورة بيئة جوارها، وتعتقد أن الاحتلال الإسرائيلي بمزايا علاقاته بالولايات المتحدة قادر على توفير الحماية لها وردع الدول الإقليمية.
– تعزيز المشروعية السياسية الخارجية للأنظمة الحاكمة في الدول المطبعة، حيث تصور مستقبل التطبيع مرتبطاً بوجودها في الحكم.
– تعزيز دورها الإقليمي (دولة الإمارات) من خلال الاستفادة من المظلة الأمريكية والغربية عموماً على حساب الدول الإقليمية التقليدية (السعودية، ومصر)، حيث تقدم ذاتها على أنها الأكثر تعاوناً، معتمدة على جرأتها في التطبيع وتجاوزها أي محددات له.
– إحراج دول الجوار المنافسة لها، كحالة الإمارات العربية المتحدة ودولة قطر.
– التخلص من العقوبات الاقتصادية وحالة الحصار المفروض، الذي انعكس على مختلف المجالات، ومن ضمنها السياسة الخارجية (السودان).
– الاعتقاد بأن تطبيع الدول مع الاحتلال الإسرائيلي يمثل لها حصانة من تداعيات انتهاكاتها لحقوق الإنسان.
– ممارسة سياسة الشيطنة وإلصاق تهمة الإرهاب بالمكونات والتيارات السياسية والإيديولوجية المناصرة للقضية الفلسطينية، وترهيب كل من يخالف توجهات الأنظمة المطبعة من المواطنين، بوصفه أنه متواطئ مع تلك المكونات المشبوهة.
الموقف الشعبي العربي
رغم رفض الشعوب العربية المستمر للتطبيع فإن موقفها في أضعف مراحله، وهو ما تدركه الأنظمة المطبعة، حيث تواجه أغلب الشعوب العربية على مستوى الكيانات والتجمعات المحدودة تحديات عديدة في ظل تشديد القبضة الأمنية لأجهزة السلطات، وانشغال الأنظمة السياسية بالمحافظة على كياناتها، إضافة إلى صراعات التمثيل والقيادة، التي تسببت بانشقاقات في بعض تلك الكيانات، ومن جهة أخرى تعاني أغلب الشعوب العربية من تراجع مستويات المعيشة وتحديات اقتصادية شديدة.
ملامح سياسة إدارة الرئيس “جو بايدن” المحتملة
تبدو ملامح السياسة الخارجية الأمريكية في حكم الرئيس جو بايدن، وفقاً لخطابات حملته الانتخابية والرؤى التي قدمها الرئيس، معنية بإعادة ترميم صورة الولايات المتحدة وتفعيل تصدير النموذج الديمقراطي الأمريكي المدافع عن حقوق الإنسان والحريات، والمشجع للديمقراطية والراعي للمفاوضات، باعتبار أن الاعتماد على تلك القيم هو ما يميز الولايات المتحدة عن نماذج النظم الشمولية، وخاصة الصين وروسيا.
ووفقاً لتلك المنطلقات يبدو أن ضغوط وإغراءات التطبيع الأمريكية ستتراجع، ومن المتوقع عودة الجهود الدبلوماسية والتنسيق مع دول الاتحاد الأوروبي لإحياء عملية السلام والمفاوضات الفلسطينية مع الاحتلال الإسرائيلي.
السيناريوهات
قد يكون من الصعب الجزم بمسارات مستقبل التطبيع العربي مع كيان الاحتلال الإسرائيلي بعد وصول بايدن إلى الحكم؛ نظراً للمتغيرات التي قد تحدث في المنطقة العربية وجوارها الإقليمي أو حتى على الصعيد الدولي، ولكن- وبناء على دوافع الدول في التطبيع المذكورة أعلاه- فيما يلي السيناريوهات المتوقعة:
السيناريو الأول: توسع دائرة التطبيع
يتوقع هذا السيناريو انضمام بعض الأنظمة العربية لقائمة الدول المطبعة مع الاحتلال الإسرائيلي، خصوصاً خلال الفترة المتبقية من رئاسة دونالد ترامب، وحتى في عهد الرئيس جو بايدن كجهود ثنائية بين الاحتلال الإسرائيلي وتلك الدول، حيث يعتمد هذا السيناريو على فرضية أن التطبيع تحول إلى مصلحة مشتركة، وقد تكون أبرز الدول المرشحة لإقامة علاقات مباشرة مع كيان الاحتلال الإسرائيلي سلطنة عمان والمغرب، وحتى قطر والسعودية، وإن كان بإجراءات محدودة، الهدف منها كسر الحواجز التي منعت التطبيع مسبقاً، لكي تفتح باب التطبيع أمام الدول الأخرى الآسيوية.
يعزز هذا السيناريو دخول دول المنطقة في مشاكل عديدة تهدد أمنها القومي، وفي ظل غياب الأفق لتسوية عادلة للقضية الفلسطينية التي يرون أنها استنزفت خياراتها خلال العقود الماضية، إضافة إلى تراجع الخوف من ردات فعل الشعوب، واعتقاد بعض القادة العرب بضرورة موافقة اللوبي الصهيوني لصعوده للسلطة.
يضعف هذا السيناريو غياب المصلحة الحقيقية التي يمكن أن تعود على الدول المطبعة، وتراجع حوافز التطبيع في عهد الرئيس جو بايدن.
السيناريو الثاني: جمود التطبيع
يفترض هذا السيناريو توقف موجة التطبيع على مستوى إقامة علاقات رسمية كاملة، بين دول عربية جديدة مع الاحتلال الإسرائيلي بعد انتهاء رئاسة دونالد ترامب، حيث يتوقع أن تكف إدارة الرئيس الجديد عن الضغوط أو التماهي مع مواقف الاحتلال الإسرائيلي كما حدث بعهد دونالد ترامب، حيث تبدو إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن معنية بالتعامل مع كثير من التحديات الداخلية وأولويات السياسة الخارجية، على الرغم من الإقرار بأن الولايات المتحدة دولة مؤسسات تؤدي كل منها مهامها، وفي طليعتها وزارتا الخارجية والدفاع والأجهزة المساعدة للرئيس في تنفيذ السياسات.
ويتوقع هذا السيناريو أن تركز إدارة الرئيس جو بايدن على إحياء المفاوضات بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، وضرورة تقديم الطرفين تنازلات مشتركة.
يعزز هذا السيناريو ظهور مؤشرات على ذلك متمثلة بعودة التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، الذي عمد إلى تحويل أموال السلطة الفلسطينية، بالإضافة إلى ضعف مكاسب التطبيع أو عودتها بنتائج سلبية، وخاصة في حالة دولة السودان، وضعف استقرار النظام الحاكم فيه، والتغيرات التي عرف بها، سواء في تقلب مواقف السياسة الخارجية للدولة أو حتى تغير الشخصيات الحاكمة.
السيناريو الثالث: انكماش التطبيع
يتوقع هذا السيناريو الذي يعد أقلها حظوظاً في التحقق، أن تساهم مجموعة من الأحداث والعوامل في تراجع بعض الدول التي أقدمت على التطبيع عن استمرارها فيه، بسبب حدوث تجاوزات متوقعة من الاحتلال الإسرائيلي يعقبها احتجاجات شعبية؛ كحرب تشنها على الفلسطينيين وتبالغ في البطش بهم، أو حدوث انقلابات عسكرية أو تحالفات إقليمية. لا تتوفر لهذا السيناريو عوامل معززة لحدوثة خلال الأشهر القادمة.